Sunday, January 30, 2005

"نص برنامج حزب الكرامة المصري"


نص البرنامج السياسي المقدم إلى لجنة شئون الأحزاب بمجلس الشورى المصري الأحد 30-5-2004 وفقًا لأحكام القانون 40 لعام 1977:

مقدمة
لسنا مجرد حزب يضاف، بل حركة تجمَع، تصون ولا تبدد، تعتز بحضارة الأمة ووحدة النسيج الوطني، وتدرك تواصل الأجيال والمدارس في ملاحم الكفاح والنهضة، ننطلق من عروبة مصر، ونستند إلى مطامح الأكثرية الساحقة من الشعب، ونستلهم أشواق الناس للتوحيد والمساواة والحرية والتقدم، ولا نتوه في دروب وفروع تلهى عن الأهداف الكبرى الجامعة، ولا ندخل في سجال عقيم يفتت تماسك المجتمعات ويذهب بريح الأوطان، ولا نقف على أطلال الماضي، بل نتطلع لاقتحام المستقبل، ونتقدم بخطى واثقة عارفة، لكسر أطواق التخلف، والخروج من سجن الهزائم، ونستمسك بنور الأمل نشق به ظلام اليأس، ونؤمن بحق مصر وأمتها العربية في النهضة الممكنة بحيوية أجيالها الجديدة على مطالع القرن الجديد والألفية الجديدة.
لا نحلق في فضاء من خيال، ولا تشدنا قيود الجاذبية الأرضية إلى ركام المذلة والهوان، ونؤمن بالتجديد في غير ما تبديد، نستلهم حكمة التاريخ في انفتاح على لغات العصر، نصون الثوابت ونتفاعل مع المتغيرات، ونسعى لنهضة عظمى نبتعث بها الأمة من رقاد، نهضة بالاستقلال الشامل وتحرير الإرادة الوطنية وفك القيود الأجنبية المفروضة عليها، نهضة بتحرير الناس وتصفية مؤسسة الفساد وانتزاع الديمقراطية للشعب كله، نهضة بالتوحيد القومي وبناء مجتمع الوحدة العربية بصياغات شعبية مبدعة واعية، نهضة بالتنمية المخططة والاقتصاد الكفء المستقل المتكامل عربيا، نهضة بكفاية الإنتاج وعدالة توزيع الثروة ونشر مظلة الضمان الاجتماعي وفاء بحقوق أوسع فئات الشعب وأعرض طبقاته، نهضة بكسر الاحتكار في مجالات الذرة والفضاء وبقفزة علمية وتكنولوجية هائلة تجتمع لها كافة الطاقات والقدرات والإمكانيات، نهضة بتجديد الذات الحضارية وحمايتها من جمود الانغلاق ومخاطر الذوبان ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحية والانفتاح الواثق على حقائق العصر وعلومه ومنجزاته وثوراته جميعا، نهضة بعقد اجتماعي جديد يعيد تنظيم البيت الوطني ويجدد دساتيره ومواثيقه، نهضة بعقد قومي جديد يعيد تنظيم البيت العربي، نهضة بعقد حضاري جديد تؤكد به مصر دورها القيادي الطبيعي في وطنها العربي وعالمها الإسلامي والثالثي المترامي الأطراف، نهضة تؤهل مصر لدور تستطيعه في تغيير العالم وجعله أكثر إنسانية وتوازنا وعدالة بمد الجسور مع شعوب وحضارات الشرق والجنوب في مواجهة طغيان غربي عصف واستبد.
ونؤمن أنه لا نهضة بدون التغيير، ونثق بقدرة الأمة حين تستيقظ عقولها وتنطلق طاقاتها وتتراص صفوفها، فالأمة التي حققت ما كان تقدر على صنع ما يكون، أمة المجد والعزة والكرامة تقدر عل صنع الغد الأفضل، ونحن ننتسب لأعظم ما في هذه الأمة، ننتسب لقدرتها الفائقة على التحمل والصبر والكيد للظالمين، ننتسب لعبقريتها الفياضة في دماء شهدائها وعرق كادحيها وعقول ووجدان المؤمنين بأقدارها، ننتسب لحقائق الجغرافيا والتاريخ والمقدرة عل التفاعل الكفء مع فوران الدنيا من حولنا، ننتسب لقدرة إنسانها الحر على رفض المذلة والهوان والقهر والفساد والعجز، لقد أن لنا أن نرفع الرأس وأن نحطم القيود وأن لنا أن نستمسك بـ "العروة الوثقى" التي تشفع كرامة الناس بكرامة الوطن وكرامة الأمة.

الكرامة: وطنية جامعة
· أول قولنا: أننا نعتز بتراث الأمة، ونؤكد على وحدة الشعب بمسلميه ومسيحييه واتصال نسيجه الاجتماعي التاريخي، ونؤمن بحق المواطنة الكاملة للجميع، ونعد حركتنا امتدادا ناميا لخط التفاعل الخلاق بين الوطنية المصرية والقومية العربية والإسلام الحضاري في انفتاح على تيارات العصر وثورات العلم والتكنولوجيا، وننحاز لأغلبية الشعب من الفقراء والقوى العاملة والمنتجة والأجيال الشابة، ونسعى لإعادة بناء مصر على قواعد الاستقلال والديمقراطية والكفاية والعدل، وتأهيلها لقيادة حركة التوحيد العربي والتضامن الإسلامي، وبناء "تحالف المستضعفين" من شعوب وحضارات الشرق والجنوب في مواجهة طغيان الهيمنة الغربية الأمريكية.
· وأول سعينا: كتلة تاريخية تضم الأكثرية الساحقة من الشعب، نعبر عن مصالحها المشروعة في النهضة والتقدم والعدالة، ونؤكد على هويتها الجامعة المتسقة، فلا تناقض بين الانتماء للوطن أو العروبة أو الدين، وحب المصري لمصر لا ينفى عنه إيمانه كمسلم أو كمسيحي، والانتماء لمصر لا يجُب الانتماء للأمة العربية، والكل شركاء على قدم المساواة في الحضارة العربية الإسلامية، إنها دوائر انتماء متداخلة ومتكاملة، وهى طبقات متراتبة في جيولوجيا التكوين التاريخي للأمة، و محاولات إثارة الاقتتال أو افتعال التصادم بين جوانب الانتماء الواحد محكوم عليها بالفشل، فهي محاولات يائسة، لتمزيق ما لا يمزق، وهى محاولات آثمة لهدم حضارة التوحيد ومنجزاتها عبر التاريخ. ففي ظل حضارة التوحيد نشأت وتطورت قيم المساواة، والمساواة لا تعنى المماثلة، المساواة تعنى أن تتساوى الفرص وتتكافأ كأساس مقبول للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.. ونحن مع أغلبية الشعب الحالمة بمجتمع الوحدة والمساواة، نحن مع أغلبية الشعب المهاجر إلى المثال المنشود، نحن مع الكثرة الكادحة المنتجة ضد القلة المسيطرة، وتلك هي الكتلة التاريخية التي نعتصم بشعابها ومصالحها وهويتها الجامعة.
· وأول إيماننا: عروبة مصر، والعروبة ليست شعارا نجتلبه أو نبتدعه، العروبة ليست اختيارا ولا اضطرارا، وعروبة مصر هي أم الحقائق في كتاب الجغرافيا والتاريخ، ولا مجال لمنازعة عروبة مصر بالفرعونية ولا بغيرها، فعروبة مصر كامنة في نسيجها واتجاهات حركتها قبل الفتح العربي بآلاف السنين، موضع مصر أتاح لها أول دولة في التاريخ، وبيئتها الفيضية الغامرة جعلتها الأسبق إلى القانون والنظام والحضارة، وإمبراطورية مصر كانت الأول واستمرت قرابة الألف عام، ولم تكن مصر بالموقع في عزلة عن محيطها الذي يعرف الآن باسم الوطن العربي، وقبل ميلاد دولة وحضارة مصر كان عصر الجليد، ومع ذوبان الجليد ذابت المنطقة كلها في هجرات وتفاعلات ثقافية مبكرة، كان الاختلاط العرقي قاعدة للتداخل والتقارب، وتوالت تجليات الاحتكاك في اللغة ومعارك البقاء، بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية فظهرت "عشرة آلاف" كلمة مشتركة في سياق التفاعل السامي- الحامي، وكانت مصر في عزها الأول تدق على باب عروبتها في إلحاح وثبات، وكانت معاركها الكبرى أشبه بدوريات استطلاع وبحث متصل عن قدر عربي تأخر اكتماله لآلاف السنين، كانت أعظم معارك مصر في الشرق، حدث ذلك مع "مجدو" تحتمس و"قادش" رمسيس، بعدها وقعت مصر فريسة لأطول مراحل استعمار في التاريخ، وجاء الفتح العربي ليرفع عنها نير احتلال يوناني روماني دام ألف عام، كانت مصر الصابرة تقدم قوافل الشهداء، وكانت تلتف حول عقيدة التوحيد في الكنيسة القبطية الصامدة، كانت مصر ملجأ وملاذا للسيد المسيح وبشارة القديس مرقس كاتب الإنجيل الثاني، ومع الفتح العربي أصبحت هي -أيضا -الملجأ والملاذ لعقيدة الإسلام الخاتم، وبعد الفتح -في القرن السابع الميلادي- حدث أعظم تطور قطعي في حياة مصر الثقافية والروحية، ودخلت عناصر من المراحل السابقة في شخصية مصر العربية المكتملة، أصبح الكل عربا وافدين أو أصليين مسلمين أو مسيحيين، وانعقدت الزعامة لمصر رغم أنها لم تكن دارا لخلافة، وتوالت أعظم معارك مصر دفاعا عن ديار العرب والإسلام، في معارك "حطين" و"عكا" وبراري الدلتا هزمت حملات الفرنجة التي تخفت زورا وراء نصرة الصليب، وهزمت حملات المغول في "عين جالوت"، وانتفضت على عهود العجز والظلام التركي بحركة على بك الكبير لضم الشام أواسط القرن الثامن عشر، وتأكد الدور القيادي لمصر عربيا بحملات محمد على، وإبراهيم باشا لفتح السودان وضم الجزيرة والشام وشمال أفريقيا العربي، وكادت الخلافة تعود للعرب بقيادة مصر لولا أن تدخل التحالف الغربي لمنع سقوط الأستانة، كانت حركة مصر عربية بحقائق الجغرافيا والتاريخ، كانت كذلك رغم أن حكامها كانوا من غير المصريين أو من غير العرب، كانت مصر تمصرهم وتعربهم بالسنن والطبائع والطموح، ثم فرضت عليها العزلة بالاستعمار الأوربي لعقود طويلة مريرة، وحين تحررت مصر عادت إلى دورها العربي بقيادة جمال عبد الناصر.
· وأول مرجعنا: تراث وإنجازات وملامح النهضة الحديثة في مصر، ونحن لا ننطلق من تصورات أيدلوجية بقدر ما نقرأ الحقائق كما جرت، ونستخلص الدروس وقوانين الحركة العامة، وطبيعي أن نهضة مصر أو كبوتها ظلت هي المقياس الراجح لحال العرب بعامة، والقصة ليست وليدة ظروفنا الآن، ولا هي قصر عل شواهد الماضي القريب، فقد كان طبيعيا أن تكون مصر أقدر على التجدد الذاتي، فلها مزايا فريدة في الموقع والموضع الجغرافي، ولها العمق التاريخي الثقافي الممتد عشرات القرون، وقد تزايدت كثافة دورها القيادي عل مسرح المنطقة بعد تداعى أدوار دمشق وبغداد وتعثر الأستانة، كانت مصر هي التي هزمت حملات أوربا باسم الصليب التي استمرت أكثر من مئتي عام، وكانت مصر هي التي ردت حملات المغول التي اجتاحت بغداد وأنهت حكم العباسيين، ورغم أنها تحولت إلى جزء من الخلافة العثمانية، فقد حافظت مصر على استقلالها التقليدي المستقر في ظل أدوار الخلافة المتتابعة، ودعم دور مصر أن خلافة الأستانة راحت تترنح تحت ضربات أوربا بنهضتها البازغة، كانت أوربا الاستعمارية قد حققت نجاحاتها الأول باكتشاف الأمريكتين، ثم تمت لها السيطرة على الشرق الأقصى بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ثم نجحت أوربا في تقليم أظافر القوة العثمانية، ثم اتجهت أوربا بميراثها العدواني لاحتواء القلب العربي الإسلامي، وكانت حملة نابليون على مصر طليعة الزحف، ولم تكن الحملة الفرنسية حين جاءت إلى مصر سنة 1798، لم تكن هي التي صنعت اليقظة العربية، وإنما وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة في مصر كلها، كان الشيخ حسن العطار -أستاذ رفاعة الطهطاوي- يقود حركة تجديد في مؤسسة الأزهر التعليمية، وترافق التجديد مع بواكير نهضة سياسية واقتصادية على عهد المملوك على بك الكبير منذ أواسط القرن الثامن عشر، ورغم قسوة وفظاظة حملة نابليون (الذي قتل 300ألف مصري، بينما لم يكن عدد سكان مصر وقتها يزيد عن 2.5 مليون نسمة)، رغم ذلك ذهبت الحملة كالزبد الذي يذهب جفاء، وقاد الأزهر حملة مقاومة شعبية أنهت الاحتلال الفرنسي في ثلاث سنوات فقط، وتلك تجربة بليغة تثبت حيوية الشعب المصري وقتها، بعدها بقليل بدأت تجربة النهضة الأولى مع دولة محمد على، قام الجيش العصري الحديث، وزيدت رقعة الأرض الزراعية، ونشأت حركة تصنيع ضخمة بمعايير زمانها، وسرعان ما تردد رجع الصدى في أقطار عربية أخرى، وتوالت محاولات "بشير الثاني" في لبنان، و"داود باشا" في العراق، و"الباى أحمد" في تونس، وسعت تلك التجارب كلها إلى استقلال العرب عن الدائرة العثمانية الممعنة في التخلف، وسعت حملات محمد على إلى إمبراطورية عربية متحدة، ثم جرى العصف بالتجربة كلها مع توقيع معاهدة لندن 1840، وتحولت مصر إلى عزب وتكايا وإقطاعيات تحت سيطرة غربية تطورت إلى احتلال بريطاني مباشر عام 1882، وانسحبت فكرة النهضة من معمل الواقع إلى مقاعد الدرس بعد هزيمة ثورة عرابي، كان التفكير في النهضة يجرى دائما تحت حد السيف الغربي، فقد تعرضت ثقافتنا الذاتية لتجربة صدام طويل دام مع الغرب، وتعرضت ثقافتنا لفقدان التوازن في تجارب تحديثها بين جوانبها المادية والمعنوية، وكانت النتيجة: شيوع الازدواج بين الموروث والوافد، ثم كانت محاولات التجاوز أو "التوفيق الفعال" بين ثقافة الذات وحقائق العصر، والتوفيق الذي نقصده ليس وسطا حسابيا، التوفيق المقصود هو موقف نوعى أرقى يتجاوز نقائص نقيضين هما "الانغلاق على الموروث"، و"الانغماس في الوافد"، وقد اكتسب التوفيق المقصود "فعاليته" من وثوق ارتباطه بتجارب ومحاولات النهضة في التطبيق والفكر والسياسة، واستمر خط التوفيق الفعال متصلا من تجربة محمد على - وإن شابها تقليد النموذج الغربي- إلى ثورة جمال عبد الناصر، فقد دعا رفاعة الطهطاوي إلى مفهوم الدولة الدستورية مع نبذ الاحتكار الاقتصادي الممنوع شرعا، ثم جاء الدور الأبرز لمدرسة جمال الدين الأفغاني المرتبطة بثورة عرابي، والمؤثرة بامتياز في تقاليد الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد التي أكدت على مفهوم السلطة "المدنية"، وفرقت بوضوح بين شعاري "الجامعة الإسلامية" و"الخصوصية القومية للعرب"، وفى النصف الأول من القرن العشرين اتسعت قاعدة الازدواج بين الوافد والموروث. في المجتمع والنخب، وظل تيار "التوفيق الفعال" حاضرا بقوة في تجربة الحزب الوطني وطلائعه المسلحة التي فجرت ثورة 1919، وربط الحزب بين الانتماء الوطني والقومي والدائرة الإسلامية مع اهتمام متزايد بالعدل الاجتماعي، وجاءت حركات الأجيال الجديدة وفى قلبها امتدادات متطورة لخط "التوفيق الفعال" في بيئة الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من تنامي حضور القضية الاجتماعية والقضية القومية، وجاء جمال عبد الناصر تجسيدا حيا ومبدعا لصيغة "التوفيق الفعال"، ومن موارد التوفيق الفعال تشكلت ملامح النهضة الناصرية: طليعة عسكرية متفاعلة مع التيارات الشعبية خاصة أجيالها الجديدة، عداء حازم للاستعمار، جهاز دولة قوى يشكل عمادا للتنمية المستقلة، سلطة مدنية تستند إلى مصالح الشعب وطموحاته، استقلال سياسي تام، استقلال اقتصادي باشتراكية الكفاية والعدل استند إلى قاعدة اجتماعية من أصحاب المصلحة من التغيير (تحالف قوى الشعب العامل) والتي كان من ثمارها التوسع في التعليم والبحث العلمي والصحة، وحدة عربية جامعة، ثم تضامن فعال في الدائرة الإسلامية والأفريقية وحركة التحرر الوطني على الساحة العالمية والتي عبرت عنها دول الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.. ولا نريد أن نعدد إنجازات الناصرية في التطبيق، فهي أهم وأغنى تجارب النهضة في تاريخنا الحديث والمعاصر، وانتصاراتها مع إخفاقاتها ملء السمع والبصر، ونحن نبدأ منها بالتاريخ ولا ننتهي إليها بالطبيعة، وندرك نواقصها الجوهرية التي حالت دون استمرارها، وأدت إلى الانقلاب عليها، ندرك نواقصها: في ظل غياب التنظيم الشعبي الكفء، وفرط الاعتماد على جهاز الدولة بمثالبه، وتضخم دور أجهزة الأمن. وبتضافر هذه العوامل الداخلية مع تربص الاستعمار والصهيونية والرجعية بالمؤامرة والعدوان عل المشروع الناصري، كانت النتيجة: إنهاك الثورة بنكستين متتاليتين، في سبتمبر 1961، وفى يونيو 1967..
صحيح: أن إجراءات الاستثناء من طبيعة الثورات، وصحيح: أن ثورة عبد الناصر هي الأقل في أرصدة التجاوز لو قورنت بأي ثورة سبقتها أو لحقتها في التاريخ الإنساني بإطلاق، وصحيح: أن عبد الناصر تحمل مسئولية الهزيمة وإعادة بناء القوات المسلحة من نقطة ما تحت الصفر، كل ذلك صحيح، وصحيح أيضا: أن الجيش الذي بناه عبد الناصر هو الذي عبر الهزيمة في ملحمة أكتوبر العظيم، كل ذلك جرى، لكن الثورة لم تستطع البقاء في السلطة بعد غياب عبد الناصر، فالثورة كانت للناس أكثر مما كانت بالناس، وهذه هي "ثغرة الضعف" التي صدعت البنيان الشاهق.
· وأول بدئنا: أننا لا نقدم بديلا بالأيدلوجيا، ونسعى إلى بلورة الوطنية الجامعة، وقد آن لنا أن نسد الفُرَج ونردم الصدوع ونجرى مصالحات تاريخية يريدها الشعب وتزيد من تماسك وفاعلية طلائعه القادرة، وعلينا –أولا- أن نقص دابر التلاعب بمواريثنا الحضارية والروحية، ولعل أخطرها ذلك السجال الخبيث الهدام بين ما يسمى بالعلمانية في مقابل ما يسمى بالدولة الدينية، فالعلمانية التي تفصل الدين عن الدولة -وعن الحياة- لا موقع لها من الإعراب في سياقنا الحضاري، ومفهوم الدولة الدينية –بالمقابل- افتئات عل إسلام الدين والدنيا، وانتهاك للشريعة وجهل بالتاريخ، العلمانية فكرة وتاريخًا جزء لا يتجزأ من السياق الغربي، فقد تجاورت هناك سلطتان إحداهما دينية والأخرى زمنية، طغت سلطة الكنيسة في العصور الوسطى فكانت الدولة الدينية، وطغت سلطة الزمن في عصر النهضة فكانت الدولة العلمانية، إنها معركة حدثت هناك، وما من معنى لنقلها هنا، إلا إذا كان المجترون للعلمانية، يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا في الغرب الحديث والمعاصر، أو كان المعارضون لها باسم الدين يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا في أوربا العصور الوسطى، فليس في الإسلام رجال دين ذوى سلطة بل علماء ومتفقهون، ولا وساطة بين العبد والرب، وليس في الإسلام سلطة دينية، سلطة الإسلام مدنية خالصة تحكم بالعقل ومرجعيته الشرع، والموقف الصحيح هو التمييز -لا الفصل-بين معنى الدين ومعنى الدولة، ولا معنى للدولة الدينية أو العلمانية في مجتمع يدين غالبه بالإسلام ويعتبره الكل ثقافتهم وحضارتهم المشتركة، وشرائع الأديان مع العلم والتقدم والعقلانية والمساواة والديمقراطية، والعقل هو وكيل الله عند الإنسان، وقد وازنت حضارتنا بين الدنيا، والآخرة، وجعلت صلاح الدنيا وعمارتها شرطا لصلاح الدين والدنيا، ووازنت حضارتنا بين العقل والنقل مع إعطاء الأولوية للعقل، ووازنت حضارتنا بين الدينية والدنيوية التي اختص بها العقل الإنساني يبدع فيها خلقا وتطويرا متسقا مع المصلحة والشرع، وشمول الدين، لا يلغى العقل البشرى واجتهاداته الحرة الطليقة من كل قيد، وأغلب شمول الدين توجيهي عام تختلف صياغاته البشرية باختلاف الزمان والمكان والمصالح والاختيارات، ولا يجب أن يختلط معنى الشريعة مع معنى الفقه، فالشريعة وضع إلهي، والفقه مدارس واجتهادات عقلية غير ملزمة دينيا، وقد توقف التطور الفقهي منذ أغلق باب الاجتهاد قبل عشرة قرون وتزيد، ولا يجب أن تتحول نداءات تطبيق الشريعة إلى مزايدات ومناقصات في أسواق السياسة، فأغلب النخب وأغلب الجمهور مع التطبيق الصحيح وتنقية القوانين القائمة مما يخالف قواعد الشريعة، وحدود الشريعة لا تؤتى ثمارها المرجوة لو طبقت في عزلة عن التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل، إنها بذلك تفقد شروط تطبيقها من الأصل، ولا يجوز أن تتخذ الشريعة وسيلة أو تكأة لمصادرة حقوق المواطنة الكاملة لغير المسلمين، ولا معنى ولا مكان لفرض جزية أو عقد ذمة كانت لها ظروف زالت من زمن، فلكل حكم علة دار معها حيث توجد وحيث تنتفي ينتفي، وإمبراطوريات الأديان كانت لها ظروفها في العصور الوسطى، ويختلف الأمر مع الدول الحديثة التي ينتمي لها الكل ويدافعون عنها بالمبدأ القومي الجامع، والأصل في الشرع: لهم مالنا وعليهم ما علينا، والمساواة هي دستور حياتنا التي نصنعها جميعا وندافع عنها بالجهد والتضحيات، وأي تمييز بين مواطن وآخر باختلاف الدين مرفوض شرعا ووضعا، فنحن شعب واحد ومن مزيج واحد ومن قومية واحدة جامعة للعرب بإطلاق، ومواقف الكنيسة الوطنية الباهرة عنوان ساطع على أصالة الانتماء العربي للكل، نقول ذلك حتى لا تكون وحدة شعبنا الوطنية والقومية والحضارية محلا لجدال أو نزال، فالأجدى أن تنصرف جهودنا جميعا لإنهاض الوطن والأمة، ونقطة البدء: تحالف وطني جامع، نقطة البدء: إعادة صياغة العلاقة بين مدارس الفكر والعمل السياسي في حياتنا، والنداء مفتوح للكل، وللأجيال الوسيطة والشابة بالذات، مفتوح لنا ولغيرنا في المدرسة القومية، ومفتوح لأبناء المدرسة الليبرالية، ومفتوح لأبناء المدرسة الإسلامية، ومفتوح لأبناء المدرسة اليسارية، وقد أعطت كل مدرسة لأمتها قدر ما استطاعت في الظروف التاريخية التي نشطت وتطورت فيها، وكان لكل منها سلبياته ونقائصه التي صنعتها نفس الظروف، وقد آن الأوان لإعادة صياغة العلاقة بين المدارس الأربعة في ضوء الخبرة والتاريخ، وهى مهمة ملحة في ظل واقع الهزيمة الذي يريد أعداء الأمة أن يفرضوه عليها، ولا تستطيع مدرسة بمفردها أن تحمل عبء التحديات الجسام التي تواجهها الأمة.
والعلاقة الجديدة تنطلق من أن الحقيقة الكاملة لا يحتكرها أحد، وترتكز على اعتراف الكل بالكل، وتستوجب نقدا ذاتيا أمينا شجاعا يمارسه كل طرف ويعلنه على الملأ، وتلك ليست محض ضرورة أخلاقية أو نزعة ديمقراطية أصيلة، إنها أيضا ضرورة للانفتاح على المستقبل والوفاء بشروطه، وضرورة لاكتساب وتعميق المصداقية لدى الجماهير، وهنا لا نعنى على أي نحو إلغاء الحدود بين القوى والمدارس، ولا التنكر لحقوقها البديهية في التعدد المؤسسي، ولا نعنى وضع الرؤوس في الرمال أو التعامي عن خلافات طبيعية وموضوعية، فليس ذلك مما نقصده، المقصود: إدراك المشترك وفتح البصر والبصيرة على مساحات الاتفاق الممكنة في بناء المستقبل عبر تخليص الوطن من التغريب والصهيونية والفقر والفساد والاستبداد. المقصود: صياغة مفهوم الـ "نحن" ليتجاور ويتحاور مع مفهوم الأنا والآخر، ومن تفاعلهما تجنى الأمة أفضل ما يستطيع الكل أن يقدموه لها في أزمتها الراهنة، والمصالحة التاريخية المطلوبة بين المدارس الأربعة –وغيرها- شرط تأسيس لحركة وطنية شعبية فاعلة، المصالحة المطلوبة شرط جوهري لتنظيم الجماهير الحرة ونيل حقوقها الطبيعية والدستورية.
والحركة الشعبية المطلوبة ليست محض ائتلاف بين مدارس الفكر والسياسة، ولا مجرد حاصل جمع لأحزاب عاجزة ومقيدة.. فرقم التغيير الصعب لا ينتج إلا من حاصل جمع أرقام الآحاد مضروبا في رقم الملايين من الجماهير. وهذا هو الدرس الواجب تعلمه من التاريخ في وقائعه المتعددة على مر مراحل عديدة في التاريخ المصري، بدءا من الحركة الشعبية في مقاومة الغزو الفرنسي والإنجليزي، وفى ثورة 1919، وحركة الطلبة والعمال قبل ثورة يوليو 1952، والكفاح المسلح في القنال، وغضبة 9، 10يونيو 1967رفضا للهزيمة، وانتفاضة 18و 19يناير 1977، لقد كانت جميعها تعبيرا عن تحرك جماهيري واسع ذابت فيه الطلائع وسط الجماهير.

الكرامة: مشروع النهضة
ولا نهضة لمصر بدون دورها القيادي في التوحيد العربي، كانت تلك حقيقة التاريخ وأعظم دروسه، وتلك أيضا هي أقدار الجغرافيا والثقافة الجامعة، ولو لم توجد القومية العربية، فرضا، لخلقتها الوطنية المصرية خلقا.
نهضة مصر -إذن- هي النهضة العربية بإجمال، ولا نستطيع أن نتحدث عن نهضة دون توفر شروطها، فالنهضة مقابل التخلف وبقاء الحال على ما هو عليه، وقمة التخلف هي هدر الإمكانية، قمة التخلف هي اتساع المسافة بين الممكنات والحادثات، قمة التخلف: تنمية مشوهة تخدم الخارج ولا تعم آثارها المجتمع ككل وتؤكد التبعية، وهو ما يحدث لنا -مع أمم من غيرنا- في عالم يمور بسباق الأمم على مدارج التقدم والنهضة.
ولا نريد أن نعلق عجزنا عل أقرب شماعة، فالعالم يتغير بالفعل، والدنيا هائجة مائجة لم تستقر بعد على مشهد ختام. العالم يتحول إلى قرية صغيرة بالتطور الطفري في وسائل الاتصال وتدفق المال والاستثمارات وتحرير تجارة السلع والخدمات، وقبضة الكبار تكاد تخنق البشرية، الدول الصناعية السبع الكبرى تملك 74% من الناتج العالمي كله، واقتصاد العالم تسيطر عليه الشركات متعدية الجنسيات، و20% من سكان العالم يملكون 85% من ثروة الكون، والـ20% الأشد فقرا لا يملكون سوى 1.5%، وديون العالم الثالث تزيد عن 0 140 مليار دولار، ووصفات "التكيف الهيكلي" –لصاحبيها صندوق النقد والبنك الدوليين- أقرب طرق الإفقار السريع، مليار نسمة في العالم تحت خط الفقر المطلق، ونصف البشرية كلها تحت خط الفقر النسبي، ومع التطور الهائل في ثورات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية والاتصالات (تنفق أمريكا سنويا 0 30 مليار دولار على التطوير التكنولوجي والبحث العلمي) ومع التطور أصبح حجم الوحدات الصناعية يميل للصغر مع توحش حجم الاحتكارات المسيطرة، وتسيطر أمريكا وحدها على 65% من المادة الإعلامية في العالم، وهذه هي أحد الأدوات الرئيسية في "عولمة" الدنيا أو "أمركتها" في الحقيقة، والأدوات الأخرى موجودة ويضاف إليها، فأمريكا تسيطر على حلف الأطلنطي الذي يتوسع شرقا ويزحف جنوبا، وتسيطر على مجلس الأمن الدولي بعد انهيار المعسكر السوفيتي، ولها النصيب الأوفر في صنع قرارات صندوق النقد والبنك الدوليين، وأضيفت لها –من أول يناير 1995- منظمة التجارة العالمية" بسلطاتها الواسعة في الضبط والقضاء وتنفيذ اتفاقات الجات لتحرير تجارة السلع والخدمات والأموال، وهكذا توفرت لأمريكا قوة قهر غير مسبوقة في فرض ديكتاتورية السلاح والثقافة والسوق، ديكتاتورية مركبة بسطوة الإعلام وتفوق الاحتكارات والتكنولوجيا واستئثار بغالب القوة العسكرية والنووية، وفى المقابل: دنيا واسعة تتقارب بينها المسافات، وتحتدم فيها التناقضات وأمم تبحث لنفسها عن مواطئ قدم في الزحام، نعم، توفرت لأمريكا والغرب –عموما- كل هذه السلطات الكونية، ولكن لم يمنع ذلك من نهضة الآخرين متى توفرت شروطها، والصين أحدث مثال، فهي تحقق أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم كله وصل لأكثر من 13% في عشرين سنة متصلة، وتقدم صياغة مختلفة، الدولة أكبر شريك اقتصادي بالقطاع العام في السوق، وفى الصين تأكد دور الثقافات الذاتية في بناء الاقتصاد، فالجماعية موجودة مع المبادرة، والاعتماد على الذات موجود مع انفتاح مقصود ومخطط له، وماليزيا تلك الدولة التي رفضت روشتة البنك الدولي، واختارت طريقًا مستقلاً للتنمية يعبر عن خصوصية حضارتها الإسلامية المتفاعلة مع الحضارة الإنسانية، وكان ذلك نموذجًا تنمويًا قادرًا على الصمود والتطور، ونمور شرق أسيا مثل أخر مشهور، وأزماتها المالية لم تجذبها للخلف، فقد جاوزت حد النهضة الصناعية والتكنولوجية بطريقة لا رجعة فيها، والمشترك الأعظم في هذه التجارب وغيرها دور الدولة في النهضة، وهو ما نجده أيضا في الهند وباكستان، الهند متوسطة القدرة الاقتصادية كسرت احتكار التكنولوجيا الذرية والصاروخية والإلكترونية والفضائية، وباكستان الأفقر كسرت احتكار التكنولوجيا الذرية والصاروخية، وإيران في الطريق، والتطور قد يبدأ في مجالات السلاح وسرعان ما يتمدد بالطبيعة –والعدوى- إلى كل المجالات، وهذه فقط مجرد أمثلة، المقصود: أن لا أحد ينهض بإذن، ولا أحد ينهض بخضوع لفروض القوة السائدة، ولا أحد ينهض حسب كراسة الشروط والمواصفات، فلكل أمة طريقها، الخاص للنهضة مهما تواصلت المشتركات، ولكل أمة طريقها في القفز على سطح الدنيا بدلا من الفرق في قيعانها وأقبيتها المظلمة.
ومع عواصف سبتمبر 2001 فوق نيويورك وواشنطن؛ تأكد المغزى الرمزي لقصف البنتاجون، ومركز التجارة العالمي، وبصرف النظر عن الفاعلين، فإن ما جرى –بعد عواصف سبتمبر- وثيق الصلات بحركة تطور العالم في الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، ذات الثلاثين سنة التي انقطعت فيها صلات امتنا بنداءات النهضة، ذات الثلاثين سنة التي جرى فيها الانقلاب على مشروع النهضة القومي العربي بقيادته الناصرية، ودخلت فيها امتنا إلى النفق الطويل المظلم، وإن لم تخل الصورة من مشاهد مقاومة موحية؛ بينما كانت صورة العالم مختلفة في النوع، فقد تغير العالم في هذه الثلاثين سنة كما لم يحدث في خمسة قرون بدأت بسقوط غرناطة واكتشاف الأمريكيتين سنة 1492، كان العالم خلالها هو الغرب؛ كان الغرب منبع الإلهام في نظريات السياسة والاقتصاد والثقافة، والمحل المختار للنهضة الطفرية المادية العلمية والتكنولوجية، فيما ظلّ العالم الأوسع محلاً للانقطاع عن النهوض، وللركود وسهولة العصف بقومياته وثقافاته ونهب ثرواته، وبعد الحرب العالمية الثانية؛ بدا أن العالم الأوسع يتمرد على السيطرة الغربية الفاشية، ودار الصراع سجالاً بين حركات تحرر وطني، واستعمار غادر صورته المباشرة إلى صور للسيطرة الملتفّة عن بعد وعن قرب، وكانت حركة القومية العربية في قلب العاصفة، وكانت النهضة في مصر بالذات مما يجاوز حدود صبر القوة الأمريكية التي انعقدت لها سلطة القيادة في السياق الغربي، وتواطأت نواقص الداخل مع شهوة الانتقام الأمريكي بقواعده الرجعية (العربية)، وثكنته العسكرية المتقدّمة (إسرائيل)، لكن انكسار مشروع النهضة العربية لم يعن انكسارًا –مماثلاً- على جبهات أخرى في العالم الأوسع، ذات العالم الذي لعبنا الدور الأبرز في صياغة تطلّعاته، فقد نهض الشرق الآسيوي بالذات، واستقرت للمرة الأولى –في تاريخ الخمسة قرون- خريطة نهوض تضارع الغرب وتكسر احتكاره المادي والتكنولوجي، والمغزى: تغيير حقيقي في خرائط القوة، وتهديد حقيقي متصل لوحدانية القطب الأمريكي الذي تزايدت شراسته بعد انهيارات موسكو، وإعادة إلحاقها بسياقها الغربي السائد، وإيذانا بتحولات غير مسبوقة في مداها وطبيعتها؛ فقد كان الاقتصاد الأمريكي يمثل نصف اقتصاد العالم عقب الحرب العالمية الثانية، وتراجعت مكانته الآن إلى حدود 28% من اقتصاد العالم، وكانت أمريكا وحدها تحتكر السلاح النووي، بينما التكنولوجيا النووية الآن تتسع خرائط انتشارها جنوبًا وشرقًا، والمعنى: أن "القوة الصلبة" التي تستند إليها أمريكا تتراجع باطراد في أوزانها النسبية، بينما "القوة الناعمة" –بإغراء الأمركة- قد صارت في خبر كان مع المغزى الرمزي لعواصف سبتمبر، من هنا كان الاندفاع الأمريكي لجوءًا لحد السلاح لمصادرة تحولات التاريخ، والعودة للاستعمار المسلح و"عسكرة العولمة"، والغزو المباشر للحلقة الأضعف والأكثر ثراء بمنابع البترول حول "بحر قزوين" وعند الخليج العربي، بدت المنطقة كأنها "مرمى النيران" المفضّل في حرب أمريكا الأخيرة؛ جموح في العصف، وغلظة في فرض الوصاية المسلحة على منطقة هي قلب العالم بامتياز، وفرض لـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" لوأد العودة –بالتطلع الشعبي- لمشروع النهضة القومي العربي بامتداده الإسلامي إلى الشرق الآسيوي الناهض.
ونحسب أن الأمة العربية تريد النهضة وتستطيعها، المهم أن يتغير حالها وتضع لنفسها علامات الطريق، وأول الطريق: أن لا نبقى على ما نحن عليه، فالعرب -في الغالب الأعم- سقطوا أسرى لوصفات التخلف النافية لدور الدولة الإيجابي، ودور المواطن الإيجابي، والدولة هنا عنوان للإرادة المستقلة، وفى غياب الرغبة في الاستقلال توالت الكوارث، والمواطن تعرض لسلب حريته وحقوقه على كافة المستويات، ومن هنا جاء الإحساس بتداعي الولاء والاهتمام بالمشاركة في تغيير أحوال الأمة، فالعرب في أغنى مناطق العالم بمواردها الطبيعية ومزاياها الجغرافية ومواريثها الثقافية، وفرصة التكامل قائمة بين أقطار البشر والماء وأقطار البترول والمال، ومع ذلك ظل الحال يتدهور إلى الأسوأ، فجوة الغذاء تتسع، والعرب يدفعون 20مليار دولار سنويا فاتورة لاستيراد القمح وحده، و120 مليون عربي تحت خط الفقر، والأمية الأبجدية متفشية ومتوسط النمو في دخول الأفراد في انخفاض متصل، في الستينيات كان المعدل 6% وفى التسعينيات تدهور عموما إلى 2.5%، وتفاوت الثروات مرعب، وديون العرب وصلت إلى 220مليار دولار، وفوائض العرب التائهة في الغرب أكثر من ألف مليار دولار، ومعدل النمو الاقتصادي في المتوسط أقل من 3% سنويا، والاستثمارات المشتركة متدنية، ونسبة التجارة البينية أقل من 10%، والإنفاق على البحث والتطوير لا يزيد عن 600 مليون دولار سنويا (أقل من 0.14% من الناتج القومي الإجمالي )، و70% من العرب تحت خط الفقر، وفجوة الأمن تتسع رغم إنفاق مهول على شراء السلاح، والمشهد في عمومه يثير الأسى باختلالاته وتناقضاته، وكأن نهضة الدنيا قد تقطعت بها السبل والأنفاس عند حدود الوطن العربي، وكأننا أمة "الربع الخالي"؛ فالقرار الاقتصادي لا نصنعه، والقرار السياسي والأمني محجوز للغير، والعصف الأمريكي يختص العرب في غالب الأمور، وطاقة الأمة على التوحيد والنهوض تضيع في سراديب الاستبداد والتخلف والنتيجة: أن تفرق العرب وظلت الأرض محتلة، والحقوق مهدرة، والإرادة ضائعة، والرعب النووي حكر (لإسرائيل) وحدها في المنطقة، وعندها صواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول لأبعد مدينة عربية، ودعاويها وخططها الشرق أوسطية تستلب الوجود العربي من ذاته بعدما أصبحت ظواهر الانعزال القطري تنمو عل حساب الوحدة إلى جانب مخاطر اهتزاز الوحدة الوطنية في عدد من الأقطار العربية. وليس أسوأ مما نحن فيه إلا ما سنكون عليه لو ظلت الحال نفسها، وهو ما يجب أن يحفزنا لتحدى الهزيمة.
ومشروع نهضتنا المقبلة لا يبدأ من فراغ، ولا يدور في الفراغ، فهو ثمرة التسليم بوجودنا القومي وهويتنا الحضارية وأشواقنا في اللحاق بالعصر، وهو خلاصة تجارب النهضة السابقة بمكاسبها وعثراتها، ولا يعصب عينيه فلا يرى متغيرات الدنيا الفوارة من حولنا، ولا يصد نفسه بالعقد عن تجارب الآخرين، ولا يقع بالإغراء والغواية في مصائد الآخرين، ويقوم -فيما نتصور- على سبعة قواعد رئيسية حاكمة ومتداخلة ومترابطة:
فلا نهضة لنا –أولا- بدون اطراد السعي إلى "الاستقلال الشامل"، وامتلاك أسلحة الردع لتحقيق توازن القوى في المنطقة، والاستقلال غير الانعزال، فالعزلة لم تعد ممكنة، ولا هي هدف مرغوب، كان الاستقلال مطلوبا للتحرر من سيطرة فرضت قرونا بقهر السلاح ، وكان مطلوبا للتحرر من سيطرة على الموارد والثروات والقرارات، وكان الاستقلال مطلوبا للتحرر من عدوان على الهوية الذاتية قوميا وحضاريا، كان الاستقلال مطلوبا بجوانبه السياسية والاقتصادية والحضارية، وهو اليوم أكثر إلحاحا بتطور الظروف، عدم التكافؤ في قوة السلاح يديم سيطرة عسكرية حاضرة بغلظة في بلادنا، وعدم التكافؤ في قوة الإعلام يسحق الذوات الثقافية عل نحو غير مسبوق في ضراوته وجبروته، وعدم التكافؤ في قوة الإنتاج والتطوير مع تداعى معاني الشرعية الدولية -يجعل ثرواتنا وأحلامنا في التقدم عجينة طيعة في يد الكبار المسيطرين، والاستقلال الشامل رد على هذا كله، إنه يعنى –أولا- تحرير الأوطان من غصب الغير، ويعنى –ثانيا- تحرير الاقتصاد من سطوة الغير، ويعنى –ثالثا- تحرير الثقافة من الاستلاب والذوبان والانغلاق في الوقت نفسه، والاستقلال يعنى التعامل الندى مع عالم اليوم عبر الاكتساب الواعي لعناصر القوة ومزاياها، ونحن أقوياء بالأسباب ضعفاء بالنتائج، نملك كل مصادر القوة وتضيع منا في آن، ننفق أكثر من غيرنا على شراء السلاح ونطلب حماية الغير، وتلك نتيجة منطقية للأسف، فالذي يشترى السلاح ليس كالذي ينتجه، ويملك العرب فرصة تصنيع السلاح لو تكاملت مواردهم المالية وخبراتهم البشرية الوافرة، والفرق: قرار باستقلال السلاح، ويملك العرب فرصة الاحتشاد على هدف يجمعهم ويعزز استقلالهم، فاحتلال العراق ووجود الكيان الصهيوني خطر يهدد الجميع، والسعي لتحرير فلسطين هدف لا يتم بدون جهد جماعي عربي متصل لعقود طويلة مقبلة، تحرير فلسطين يحرر الأمة من قيودها ويطلق طاقاتها الحبيسة إلى أبعد الآماد، وذلك في ضوء التأكيد على حقيقة أن الصراع العربي/ الصهيوني هو صراع وجود لا حدود، ولن تحسمه إلا القوة بمعناها الشامل: حضاريا واقتصاديا وعسكريا، وأن تحقيق الانتصار فيه ليس رهنا بجيل أو مرحلة أو معركة، ولا يحق لأي جيل أن يتنازل عن الحقوق التاريخية الثابتة للأجيال العربية السابقة والحالية واللاحقة في فلسطين. ولذلك فإن كافة الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها الأطراف العربية مع (إسرائيل)، غير ملزمة إلا لمن قام بتوقيعها، ومن حق الجيل العربي الحالي والأجيال اللاحقة له أن ترفضها ولا تعترف بها.
ولا نهضة لنا –ثانيا- بدون الوحدة العربية، فلم تعد الأمة العربية في حاجة لأن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها، ووحدة الأمة ليست مجرد استعادة لأوضاع كانت عليها، ولا هي مجرد رفض مشروع لتجزئة فرضت علينا فرضا مع عهود الغزو الاستعماري، إنها حركة تغيير ونهوض سياسي واجتماعي وحضاري شامل، وهى ثورة تبلغ هدفها بخلق قوة شعبية موحدة في الوطن العربي، والوحدة القومية ليست موضة، فات أوانها، فبواعثها راسخة بحقائق الجغرافيا والتاريخ؛ ثم أننا نعيش في عصر يقظة متصلة للقوميات، قبل الأيدلوجيات وفوق ركامها، الدليل : ما حدث من تفكك الاتحاد السوفيتي أخر إمبراطوريات الأيديولوجيا، وما حدث في ألمانيا التي توحدت، وما يحدث في الصين التي تسترد وحدتها القومية كاملة، وما يحدث في الدنيا كلها من صحوة للقوميات والثقافات القومية، إن الوحدة العربية هدف يستوجب إقامة دولة عربية على كامل تراب الوطن العربي كما هو محدد جغرافيا وتاريخيا، ومع إدراكنا بوجود تفاوتات مجتمعية بين البلدان العربية وفى كل منها، ووعينا بضرورة تكامل هذه التفاوتات في إقامة الدولة المنشودة، نرى هذه الدولة مجسدة للتعدد والتنوع العربيين، دولة تكون السيادة فيها للشعب العربي، وتكون السلطة فيها لمن يختاره الشعب العربي، وتكون علاقات الناس فيها متفقة مع اشتراكهم في ملكية الأرض التي هي وطنهم، وتكون علاقتها بالدول الأخرى محكومة دائما بما يحقق مصلحة الشعب العربي.
ونحن نطلب هدف وحدتنا القومية ونسعى إليه بأساليب تتكافأ شرفا مع الغايات، ومن ثوابتنا على الطريق: التأكيد على دور مصر وقدرها كدولة نواة الوحدة المقبلة (70مليون عربي في مصر من إجمالي 280مليونا عند خط بداية القرن 21)، أيضا: التأكيد على تدرج الأشكال والصياغات الدستورية للوحدة، والتأكيد على بعث الحركة القومية والاتحاد الطوعي للمنظمات الشعبية الساعية للوحدة، وخلق مجتمع الوحدة العربية من أسفل وبنائه قاعديا بدمج أنشطة وقطاعات اقتصادية واجتماعية نوعية وأهلية وإطارات للتعبير القومي الموحد، ونحن لا نتغافل عن حقيقة وجود الدولة أو الدول القطرية، لكن الدولة القطرية -صغيرة أو كبيرة- أصبحت عبئا على نفسها، ولم تعد قادرة على مواصلة الشوط ولا تجديد مصادر شرعيتها المصنوعة، في عالم يتجه إلى صناعة التكتلات والتجمعات الاقتصادية ولا يعترف إلا بالكيانات الكبرى، والوحدة العربية تجمع طبيعي كبير لا مستقبل لنا بدونه، وكل خطوة في اتجاهه تزيد من مقدرتنا على تقليص ظواهر عدم التكافؤ في علاقاتنا بالكبار.
ولا نهضة لنا –ثالثا- بدون الكفاية والعدل، توسيع قاعدة الثروة ثم نصيب عادل من الثروة لكل بحسب عمله وجهده، الكفاية في الإنتاج هي شرط النمو الاقتصادي، والعدالة في التوزيع تحول النمو إلى تنمية تستنهض طاقات المجتمع بأكمله، والتنمية التي تحقق الكفاية والعدالة تستحق وصف التنمية المستقلة، فاستقلال التنمية ليس في مجرد إعلان التمرد على قواعد عدم التكافؤ في نظام دولي يصوغه الكبار ضمانا لمصالحهم وتعظيما لاحتكاراتهم وأرباحهم المنهوبة، استقلال التنمية يعنى التحرر من السيطرة الاقتصادية والاجتماعية، استقلال التنمية يعنى السيطرة الوطنية على القرارات وحرية اختيار الأهداف وحرية استخدام الوسائل، وقد زادت ظواهر عدم التكافؤ في النظام الدولي مع قيود اتفاقات الجات ووجود منظمة التجارة العالمية المضافة لشروط ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، والهدف: تحطيم ما تبقى من حصانة الأسواق القومية، وتحويل الدولة إلى حارس مطيع لاحتكارات الكبار، وهو ما يعنى أن دور الدولة القيادي -بالمقابل- في تحقيق التنمية المستقلة أصبح مطلوبا أكثر، وتتأكد قدرة الدولة على التدخل الفعال بقدر كفاءتها وتمثيلها الحر لأغلبية الشعب، دور الدولة مطلوب في قيادة الاقتصاد بكافة قطاعاته العامة والخاصة والتعاونية، ووسائلها: التخطيط العلمي، والمزج بين آليات التخطيط وآليات السوق، وتوجيه الاستثمارات والحوافز والروافع الاقتصادية لبناء قاعدة علمية تكنولوجية متقدمة وتقود إلى وضع تنافسي أعلى للدولة، ولا قيد على تطور أشكال الملكية جميعها مادامت تحقق وظائفها الإنتاجية والاجتماعية بكفاءة، والملكية في عقيدتنا الحضارية وظيفة اجتماعية، الملاك مستخلفون لا أصلاء، وليس لهم حق التصرف المطلق، والملكية الخاصة مشروعة دون احتكار ولا تقديس، والاستثمارات الأجنبية مرغوبة في حدود الأهداف والخطط الوطنية، ولا يمكن لتنمية أن تدوم وتطرد بدون تنمية البشر والتشغيل الكامل للطاقات وخلق الكوادر القادرة وإعلاء مبدأ تكافؤ الفرص في حقوق العمل والعلم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي، وتوسيع قاعدة الإنتاج واستنفار الطاقات الأهلية وعدالة توزيع الثروة وتذويب الفوارق بين الطبقات والقضاء على ظاهرة البطالة وتعظيم عوائد العمل في مقابل وظائف الملكية، وفى إطار تنمية البشر من الضروري إدمـاج الملايـين الثمانـية من متحدي الإعاقة في مصر ـ 13.2% من تعداد السكان ـ ضمن النسيج الطبيعي للمجتمع. الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بإعادة طرح القضية بأسلوب علمي، يواجه الظاهرة بعيداً عن تركة الأفكار البالية والأحكام التي لا تأبه بقيمة الإنسان والخزعبلات الموروثة عن القرون الوسطى، والتي ما تزال تعشش حتى في نصوص بعض القوانين. والخطوة الأولى دائماً هي الإقرار من جانب الدولة والمجتمع بأن الحل لا يكمن في استجداء ذوي القلوب الرحيمة ومحترفي ما يسمى بالعمل الخيري، وإنما هي حقوق دستورية لمواطنين كاملي الأهلية. وعلى الدولة من حيث المبدأ أن تلغي القوانين الجائرة التي تشكل وصمة عار في جبين المجتمع، وأن تلتزم بتنفيذ القوانين الصادرة فعلاً بعد طول عناء، ولا تسمح بالتحايل عليها أو القفز من فوقها أو التراجع عنها، فضلاً عن استصدار القوانين التي من شأنها أن تضمن لثمانية ملايين مواطن الحقوق الأساسية، كالصحة والتعليم والمواصلات والسكن والثقافة والعمل والتمتع بالأمن وممارسة حق الانتخاب والمشاركة في سائر الأنشطة بحيث لا يقتصر دور هؤلاء جميعاً على التفرج من مدرجات المهمشين، بل من منطلق أنهم طاقة إنتاجية هائلة لا يجوز خصمها لغير ما سبب من رصيد الوطن. ومن واجب الدولة توفير الوسائل التي بدونها تصبح هذه الحقوق الأساسية مجرد حبر على ورق. ويأتي في مقدمة ذلك الأجهزة التعويضية ومنظومة الوسائل الإيضاحية والعنصر البشري المعد علمياً وسيكولوجيا والقادر بصفة مستمرة على المراجعة التحليلية، بالتوازي مع الاستيعاب المتواصل لإنجازات الطفرة التكنولوجية المتزايدة السرعة.
كذلك فإن من الضروري مراعاة ظروفهم أثناء التخطيط للمدن والأماكن العامة والمصالح الحكومية. ويكون الهدف من وضع البرامج الخاصة، لا تأهيلهم لينخرطوا ضمن حركة المجتمع فقط، بل لتأهيلنا نحن أيضاً لنتفهم واقعهم، ولا بد من رفع المعوقات من طريقهم والعمل على إطلاق ملكاتهم والسماح لإبداعاتهم بأن تأخذ مكانها على خريطة المشروع الوطني العام.
وطبيعي أن اطراد التنمية يتطلب نوعا من الاعتماد الجماعي العربي على الذات لإشباع الاحتياجات الأساسية.
ولا نهضة لنا –رابعا- بدون العلم والتكنولوجيا، فقد اتسعت هوة التخلف التكنولوجي في بلادنا، والتطوير في التكنولوجيا والبحث العلمي لم يعد مجرد عنصر مساعد في دفع التنمية، فقد انقلبت الأحوال تماما في الخمسين سنة الأخيرة مع ثورات الإلكترونيات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية وعلوم المواد والفضاء والطاقة النووية والليزر، والزيادة في القيمة المضافة لاقتصاد أمريكا -مثلا- تعود في 87.5% منها إلى تطور التكنولوجيا في مقابل 12.5% فقط لنصيب الاستخدام الرأسمالي والعمالة، وهو انقلاب على نمط اقتصاد وتصنيع قديم يعتمد على ثلاثية رأس المال والعمالة والمواد الخام، وأزمتنا الأمنية والاقتصادية الراهنة تعود في غالبها إلى تخلفنا العلمي والتكنولوجي، فالنمط الغالب على علاقتنا بالتكنولوجيا هو الاستعارة أو تسليم المفتاح، ولا يمكن القفز على فجوة التخلف التكنولوجي بدون تخطيط مركزي للدولة، ووضع استراتيجية البحث العلمي وتمويلها وربطها بمؤسسات الإنتاج (العامة والخاصة)، أيضا لا يمكن تحقيق نهضة بدون اختيارات تكنولوجية ملائمة في مجالات تخدم طفرة الإنتاج الزراعي والصناعي والموارد المائية وتوطين تقنية المعلومات وصنع شرائح السيليكون وكسر احتكار تكنولوجيا الذرة والفضاء، والخطوة الأولى تعبئة الموارد المالية والعلمية وكلها متوافرة وممكنة التكامل في إطار عربي شامل، وحفز الإنفاق على التعليم والتطوير والبحث العلمي وتطوير نموذج تنمية يزاوج بين التشغيل الكامل والطفرة التكنولوجية معا.
ولا نهضة لنا-خامسا- بدون الديمقراطية كلها للشعب، فالديمقراطية صمام أمان ضد انتكاسات النهضة الدورية، والديمقراطية مدرسة الشعوب، والديمقراطية تقدم الاختيارات والبدائل كلها للناس وتطور مقدرتهم على المعرفة وإدراك الحقائق، ولا ديمقراطية حقيقية بدون ضمان الحقوق التامة في التعدد السياسي والفكري والنقابي والأهلي، ولا ديمقراطية حقيقية بدون ضمان تداول السلطة بكافة مستوياتها عبر صناديق الانتخاب المباشر الحر والنزيه، ولا ديمقراطية حقيقية بدون فصل وتوازن قوى السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون تأكيد حقوق الإنسان وحرياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية كافة، ولا ديمقراطية حقيقية تفصل السياسة عن المجتمع، فحرية تذكرة الانتخابات مرتبطة بحرية رغيف العيش، وحرية الكلمة والتعبير هي أم الحريات، ولا حرية للكلمة بدون تحرير وسائل الإعلام كافة من وصاية السلطات، وضمان حرية تدفق المعلومات التي تمكن المواطن من إبداء الرأي والمشاركة في صناعة القرار، وحريات الحركة الجماهيرية أكبر ضمان ضد انتكاسات الديمقراطية، وتزدهر الديمقراطية كلما كانت حركة الجماهير في الشارع أقوى تأثيرا وأعلى صوتا من منابرها التمثيلية في البرلمان المنتخب.
ولا نهضة لنا-سادسا- بدون تجديد الذات الحضارية، فالحضارة هي أسلوب حياة ومعنى شامل يتضمن تقاليد النظر للكون والوجود والحياة والإنسان والأفكار والقيم وعلاقات الإنتاج وطرائق التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكل حضارة أو ثقافة خصوصية لا تفهم بمعزل عن تكونها التاريخي، وحضارتنا العربية الإسلامية هي ملك ومن صنع أبناء أمتنا جميعا مسلمين ومسيحيين، وقد تعرضت حضارتنا لصنوف من المحو والتشويه مع عهود السيطرة الاستعمارية، وما حدث لحضارتنا وقتها يسير لو قورن بالتحديات الماثلة الآن، فالشركات متعدية الجنسيات تقوم بتدويل رأسمالية الغرب، والتطور الهائل في وسائل الاتصال -مع نفوذ القطبية الأمريكية- يهدد بتدويل ثقافة الغرب، والهدف: تنميط الكل بدعوى الحضارة العالمية الواحدة، ونحن لا ندعو لانغلاق أو قطيعة حضارية، نحن ندعو لتفاعل وحوار متكافئ من مواقع الاستقلال، والاستقلال يبدأ بالمواجهة الفاعلة لتعميم وتسييد نموذج الحضارة الغربية كنموذج للحضارة الإنسانية الشاملة؛ فقد كانت هناك دائما حضارات تسود، وحضارات تتنحى إلى حين، لكن دورات الصراع والتفاعل الحضاري كانت تسمح دائما للحضارات الأصلية بالازدهار مجددا، وحضارة الغرب تسود الآن، بينما حضارتنا في وضع المتنحى لا الميت، وليس المطلوب أن نغلق الأبواب والنوافذ في وجه حضارة الغرب، بل أن ننتقى من إنجازاتها الضخمة ونهضمها ونتمثلها في إطارنا القيمي الثقافي الحاكم ، فتجديد الذات هو الأساس، ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحضارية مطلوب، وهو لا يتعارض مع الانفتاح على حضارة الغرب وعلومه الطبيعية والأساسية وإنجازاته التكنولوجية بالذات.
ولا نهضة لنا-سابعا- بدون باندونج جديدة، كانت باندونج في الخمسينيات عنوانا لحركة عدم الانحياز، ولم يكن عدم الانحياز موقفا سلبيا في عالم الاستقطاب الثنائي وقتها، ولم يكن ترددا متذبذبا بين اختيارين كلاهما من بنات أفكار التاريخ الغربي القاهر، كانت حركة عدم الانحياز صوتا داويا وتكتيلا مؤثرا وتجسيدا لحق شعوب الشرق والجنوب في حرية الاختيار والقرارات، وتعرضت الحركة لموجات من المد والجزر ومحاولات الاستقطاب من هنا أو من هناك، ثم توالت وقائع الدراما العاصفة عند القمة، وزال الاستقطاب الثنائي بتفكك الاتحاد السوفيتي، وحلت القطبية الأمريكية وحدها حتى إشعار آخر، وتدهورت أدوار حركة عدم الانحياز بأثر من تغير البيئة الدولية وبأثر من زوال قادتها التاريخيين وتراجع حركة الثورة في العالم الثالث، عبر تدفق موجات العولمة الاقتصادية والتي تمثلت في وحدة الأسواق المالية والائتمانية في العالم. والدور البارز الذي أصبحت تلعبه الشركات المتعدية الجنسيات، بالإضافة إلى تصاعد قوة المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وكما ظهرت تجليات العولمة السياسية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة في حق التدخل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي في الصومال ويوغوسلافيا وفرض الحصار –والاجتياح العسكري أحيانا- على ليبيا والعراق والسودان. ولعل ذلك كان من أخطر تجليات العولمة على المنحى الثقافي فيما يفرض من محاولات صياغة ثقافة كونية تتضمن قيما ومعايير لكي تحكم حركة الشعوب. والمطلوب الآن: الحفاظ على جوهر عدم الانحياز مع إبداع صيغ جديدة ملائمة لما جرى من تغيرات، ونتائج.
رغم ذلك، فإمكانات الحركة على المسرح واسعة، فزوال الاحتكام لخيارين جعل الأمم تعود إلى ذواتها تطلب المدد والعون، والنتيجة: عالم جديد سوف يكتسب حريته، وتعدد متزايد في اختيارات النهضة مع وجود عناصر مشتركة بطبيعة الأشياء، فكثافة السيطرة الغربية مع عدم التكافؤ وسيادة الظلم كلها تستنفر ممكنات المقاومة، ولدى العرب –بالذات- إمكانات حركة دولية غير مسبوقة، فلهم مخزون الانتماء إلى عالم إسلامي (خمس البشرية) وشعوب نامية تتعاظم مفرداتها السياسية ومواردها البشرية والطبيعية، وهم يستطيعون لو أرادوا تحويل ذلك إلى صيغ فعالة حضاريا واقتصاديا في تحالف شامل للمستضعفين يضم حضارات هذه الشعوب، وهذه نقطة البدء نحو باندونج الجديدة.
وهى نقطة البدء كذلك صوب بناء تحالف أممي شعبي مع جماعات العولمة البديلة التي زاد عددها واتسع فعلها؛ كما تعمق لديها قضايا مواجهة العولمة، واستبدادها واستغلالها، وكذلك دفاعها وتبنيها لقضايا تحرير فلسطين والعراق، ولعل نجاحنا في بناء ذلك التحالف يجعلنا في قلب قضايا العالم، ويوطد من موقف جماعات العولمة البديلة مع قضايانا.

الكرامة: إنقاذ لمصر
نهضة العرب تبدأ بنهضة مصر، وما أبعد ا لمسافة بين مصر الآن ومصر التي ينبغي أن تكون، ما أبعد المسافة بين ما حل بمصر وما تقدر عليه بمواردها وإمكاناتها وعمقها العربي والإسلامي.
ونحن -مع غيرنا- نتقدم لإنقاذ مصر من الاختراق وتدنى المكانة والدور، وتسلط القهر، وتداعى الشرعية بسوء السياسة وبؤس الاختيارات وتزييف إرادة الناس، وتوحش الفساد الذي تحول إلى مؤسسة مسيطرة على مفاتيح السياسة والاقتصاد، وتحول مصر إلى مجتمع 2% المحتكرة لـ40% من الدخل القومي، وانتشار الفقر والمرض والجهل وسكن القبور وعجز الغالبية عن تلبية أبسط مطالب الحياة الكريمة، والتخلف المرعب في تدريب واستثمار القوى البشرية الكثيفة، وتدهور مؤسسات ومراكز البحث العلمي، وتضاعف مخاطر اندثار الصناعة الوطنية، وانحطاط التنمية، وتداعى المقدرة على اطراد الإنتاج واكتساب التكنولوجيا.
وبلاغة المشهد في عمومه لا تغنى عن بعض التأمل في تفاصيل أحوال مصر.
كانت حرب أكتوبر 1973أخر طلقة مدفع من على جبهة النهضة، صبرت مصر على هزيمة 1967، ودفعت من قوتها وأعصابها ودماء شهدائها، وأثبتت أنها قادرة على الصمود والنصر، وأكملت دورة ربع قرن -بدأت مع تفاعلات نكبة 1948- من النهوض بانتصاراته وإخفاقاته، أسقطت عهود الاحتلال والسيطرة الأجنبية على الموارد والمقدرات، أسقطت مجتمع النصف في المائة المحتكرين بالإقطاع لأغلب الدخل القومي، واندفعت تخوض معاركها ومعارك أمتها العربية، وحققت الاستقلال الشامل رغم كثافة الضغط وتربص الكبار، استعادت قناة السويس وبنت السد العالي وقلاع الصناعة الكبرى، وصنعت لنفسها حياة تليق ببناتها وقواها العاملة والمنتجة، ولم تلجأ لمعونات خارجية حجبت عنها بإصرار، ومع ذلك حققت تنمية هائلة بكل المقاييس، في عشر سنوات -بين عامي 1956 و1966- حققت تنمية تفوق ما جرى في أربعين سنة قبلها، متوسط النمو المنتظم بأرقام البنك الدولي ذاتها كان يجرى بنسبة 7.7% سنويا مع تواصل الصراع وبالسلاح مرات، في 1956 و1967 والملحمة الباسلة لحرب الاستنزاف التي توجت بالعبور العظيم في 1973، وتمكنت من زيادة الرقعة المنزرعة على أرضها بنسبة 30%، ومع هزيمة 1967 لم تسقط التجربة ولا تراجع زخمها، سدت مصر باب القروض المهينة حتى لا تقع في فخ الديون المنصوب، ووجهت غالب مواردها للجيش وجبهة القتال، مع ذلك استمرت التنمية على استقلالها وحيويتها، وحافظت على متوسط نمو اقتصادي معقول رغم التكاليف الثقيلة للمجهود الحربي، كانت نسبة النمو في مصر تجرى بمتوسط سنوي وصل قدره إلى 5.14% بين عامي 1969 و1973، لم يكن اقتصاد مصر عند نقطة الصفر كما روجوا، كان ذلك بدءا من حملة واسعة مخططة تخفت وراء مشروعية النقد لتصل إلى جرائم النقض، كانت الحملة ضد سنوات النهضة أشبه بستار كثيف من الدخان، وتقدم المشاة -تحت الدخان- من مواقع السلطة للانقضاض على اختيارات النهضة، وكانت الاختيارات البديلة: التبعية باسم الانفتاح و"الاستسلام" -خطوة خطوة- لـ "إسرائيل"، وديمقراطية الأنياب والأظافر والعلاقة الخاصة مع أمريكا، وانهالت المعونات والتدفقات المالية لتوحي برواج ينسى ويلهى، أكبر التدفقات المالية من عوائد البترول وصلت إلى مصر في الفترة من 1974-1979، وكان القطاع العام ما يزال صامدا ويتوسع رغم التغير في الدور، وفى الفترة بين 1980إلى 1984تراجعت نسبة النمو الظاهري إلى متوسط قدره 6.99%، وفى الفترة ما بين 1985إلى 1989كانت نسبة النمو في مصر تجرى بمتوسط سنوي قدره 2.92%، كان الارتفاع الظاهر في نسب النمو بعد 1973محكوما بظروف خارجية استدعت جهدا مكثفا لتسيير الأمور وتسهيلها في مصر، وعندما زالت هذه الظروف فقد أصبح على مصر أن تواجه مشاكلها وهى وشأنها: تعوم أو تغرق، والأفضل طبعا أن لا تعوم ولا تغرق، كان الثمن الذي دفعته مصر غاليا وفادحا، كان الثمن: بيع قرارها السياسي والاقتصادي، وصلح منفرد مع (إسرائيل) مقابل عودة سيناء منقوصة السيادة، وإغراق في الديون (وصلت إلى 50مليار دولار) لتسهيل احتلالها واختراقها بالتدريج، وإغراء بمعونات أمريكية تدفقت على مصر بعد صلحها مع (إسرائيل)، وتزايد رقم المعونات لتصل في مجموعها إلى 50 مليار دولار حتى الآن، وفعلت المعونات فعلها، خلقت طبقات مستفيدة تحولت بالتدريج إلى أقوى جماعات الضغط، ولم تخسر أمريكا مما دفعت سنتا واحدا، فقد استردت مقابل الـ 50مليار معونة ما يزيد عليها من صادراتها بالأسعار المزيدة إلى مصر، أيضا: جرى تجيير ثقل مصر لتسهيل صفقات التسوية بين العرب و(إسرائيل)، وتخلقت ظروف مواتية لفرض وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، وتدهور معدل النمو السنوي في متوسط الدخل الفردي في التسعينيات، وبدأت هوجة بيع كل شيء في مصر باسم الخصخصة بدعوى تحرير الاقتصاد ومنع تدخل الدولة، وجعل قرارات الاقتصاد الأساسية حكرًا لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، واصطناع وتهجين "قطاع خاص" بتوكيلات المعونة الأمريكية، وكانت النتيجة: "تكييف هيكلي" أنهى عصمة الدولة، وتزايد بنفوذ القطـاع الخاص -المصطنع- إلى حد السيطرة على صناعة القرارات الاقتصادية الكبرى؛ فقد تراكمت مليارات المال الحرام عند –"جماعة البيزنس"- دون مقابل إنتاجي أو قواعد اجتماعية، وضغطت الثروات الطافية بشدّة في توافق مع المكون الأمريكي الطاغي في صناعة القرار المصري، وتراجعت في اطراد جملة الاعتبارات المحلية عند صانع القرار، وتضاءلت هوامش الممانعة، وجرى التورط في قرارات –أشبه بالمقامرات- لا تأخذ في حسابها ظروف الاقتصاد الملموسة، وكانت ذروة التراجيديا في قرار "تعويم سعر الصرف" الذي اغرق الجنيه المصري أو يكاد، نزلت قيمة الجنيه إلى النصف في عام واحد بعد قرار "التعويم" الذي ضغط صندوق النقد لأجله من أوائل التسعينات، وجرت الاستجابة الكاملة للضغط أوائل 2003، وفى بيئة تزاوج فيها الضغط الأمريكي –إلى حد التهديد بالسلاح- مع سعى "جماعة البيزنس" للاستيلاء الكامل على قيادة الحزب الحاكم، وتفاقم جنون الدولار، وانفلات الأسعار، تضاعفت أسعار السلع الأساسية في عام واحد، والخطر يزيد مع انكشاف الاختلالات الهيكلية للاقتصاد غير المشفوع بطابع إنتاجي، وغير القادر على التطور بطاقة التصدير أو إحلال الواردات؛ ومع تفشى النهب العام بمعدلات فلكية، وسيادة الركود في الأسواق، وتضاعف معدلات التضخم إلى ما يجاوز حدود الخطر، وسد العجز المتزايد في الموازنة بخفض الإنفاق على الخدمات والاقتراض من الداخل والخارج بأذون الخزانة، و"خطف" مليارات المعاشات والتأمينات للإيحاء بخفض صوري في ديون الحكومة، أضف أن فوائض ميزان المدفوعات من دخول ريعية معرضة للخطر في أي لحظة، وأغلبها من زيادة إيرادات الملاحة، ورسوم المرور في قناة السويس، وتحويلات المصريين في الخارج، ويقدر ما وصل من هذه التحويلات إلى ما يزيد عن 80مليار دولار في سنوات "الانفتاح"، في المقابل تراجعت إنتاجية الاقتصاد على نحو مرعب، تراجع نصيب الزراعة في الناتج القومي إلى 16.3%، وانخفضت نسبة الصادرات إلى 12.1%، وتراجعت عمالة الزراعة إلى 32% من إجمالي العمالة، وتراجعت مساهمة قطاع الصناعة إلى 17%، ولم تعد تستوعب غير 13% فقط من قوة العمل، ومع الخصخصة يتوقع طرد 25% من عمال القطاع العام حسب تقديرات الحكومة ذاتها، ورغم إسقاط ثلث ديون مصر الخارجية مقابل لعبها لدور مرسوم في حرب الخليج الثانية، رغم ذلك مازالت الديون عبئا ثقيلا، ناهيك عن حجم الدين الداخلي الذي تجاوز رقم الـ 500 مليار جنيه، في الوقت نفسه تستمر الحكومة في التفريط بحقوق الدولة، وتقدم مزايا واستثناءات وإعفاءات ضريبية هائلة-غير متاحة في أي دولة- لفئات المستثمرين المحليين المرتبطين بالأجانب، ويذهب أكثر من ثلث الاستثمارات (35.2%) إلى المضاربة العقارية، وهو ما يزيد من ضعف الإنتاجية وينخفض بأرقام التصدير مفرطة التواضع، والنتيجة: عجز متفاقم في الميزان التجاري، بيع 1673 مشروعا مملوكا للمحليات، وبيع شركات القطاع العام التي يقدر عددها بـ 392شركة، ومنع شركات القطاع العام –بالأمر الحكومي المباشر- من زيادة استثماراتها بفوائض أرباحها، بدأ البيع بالشركات الرابحة، وطرحت للبيع شركات وصروح الصناعة الثقيلة مثل الترسانة البحرية والمراجل البخارية وغيرها، وأيضا.. بيع المرافق العامة، جاءت البداية بخصخصة التليفونات والكهرباء، وفى الطريق: خصخصة للسكك الحديدية والبريد والنقل العام والمياه وخدمات الصرف الصحي والشحن الجوى وشركات تابعة لمرفق قناة السويس، وجرى سن تشريعات مريبة تتيح للأجانب تملك الأراضي وإنشاء المطارات والطرق والمواني، والشعار المرفوع: كفاءة القطاع الخاص، بينما استثمارات القطاع الخاص –في الـ20سنة الأخيرة- لا تزيد كلها عن 30مليار جنيه، ولم يوفر القطاع الخاص سوى 400 ألف فرصة عمل مقابل ملايين العاملين في الحكومة والقطاع العام، والتوجه إلى بيع شركات التأمين العامة رغم امتياز وتفوق أدائها، وبيع بعض حصص بنوكنا العامة.
وطبيعي أن هذه السياسات لا تدور في فراغ اجتماعي، إنها تعبر عن انحياز لقلة طفيلية ربطت مصالحها بالرأسمال الأجنبي، وسرعان ما تكاثفت ملامح أبشع سيطرة لرأس المال عل الحكم، وأي قراءة عابرة للمشهد توحي بالظواهر المفزعة، 2% من السكان يملكون 40% من إجمالي الدخل القومي و8% من السكان يحصلون على ثلثي الدخل القومي و68% من السكان يملكون مالا يزيد عن ربع الدخل القومي، وطبقة وسطي تتآكل في اطراد و30مليون مواطن تحت خط الفقر حسب الأرقام الرسمية، وثلاثة أرباع السكان تحت خط الكفاف لا الكفاية، وتفاوت الثروات بنمو بصورة مرعبة، والمليونيرات في أوائل التسعينيات: كان في مصر 50 فردا تبلغ ثروة الواحد منهم ما بين 100 إلى 200مليون دولار وقد تحول أغلب هؤلاء إلى مليارديرات الآن، أوائل التسعينيات أيضا: كان في مصر 70ألف فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 5 إلى 10ملايين دولار، وكان في مصر 3620فردا تتراوح ثروة الواحد منهم ما بين 10إلى 100مليون دولار، وحدث ولا حرج عن عدد مليونيرات مصر الآن، وفاتورة المرسيدس السنوية وصلت إلى 2.5مليار جنيه في أبسط التقديرات والتهرب الضريبي وصل إلى ما يقرب من 30 مليار جنيه، وجماعة لصوص القروض نهبت 200مليار جنيه، وأبناء الكبار تحولوا إلى مليونيرات بشهادة الميلاد، والدخل السنوي للاقتصاد الأسود يكاد يقترب من حجم الدخل القومي المنظور، ويصل حجم الأموال المصرية المنقولة للخارج إلى 200 مليار دولار، وأفراح الكبار تحولت إلى مواسم استفزاز وترف وحشي، وكل هذه الثروات الحرام -باستثناء عشرة في المائة على الأكثر- لا علاقة لها بالحقائق الاقتصادية، فلا قيمة إنتاجية مضافة ولا ضرائب تدفع بالقانون وضوابطه، بل دوران حول القانون واستهتار به، وسيادة لمنطق الاستغلال وسطوة النفوذ.
في المقابل: تعيش الأغلبية الساحقة في الفقر والجهل والمرض، ترتيب مصر في تقارير التنمية البشرية رقم 122 بين 185دولة هم مجموع أعضاء الأمم المتحدة، وبين الدول العربية رقم 13، فالخدمات الصحية تتدهور، والإنفاق على الصحة لا يزيد عن 1%، والمنشآت الصحية التابعة للدولة تتدهور أحوالها في اطراد، والاستثناءات قليلة والكفاءة الطبية تتدهور حتى في مستشفيات العلاج الاستثمارى باهظة التكاليف، و55% من الأطفال يعانون الأنيميا، و40% من الأطفال مصابون بسوء التغذية حسب الأرقام الرسمية، متوسط نصيب الفرد من الغذاء 586كيلوجراما في السنة (بينما الرقم في إسرائيل 2367 كيلوجرام)، ونسبة المهمشين تقارب ثلث مجموع السكان، والبطالة تتوحش، جيش العاطلين المحبطين اليائسين يصل إلى 7 ملايين شاب أي 25% من إجمالي قوة العمل، وعدد العاطلين من حملة المؤهلات يصل إلى 3 ملايين تقريبا، والأرقام يتوقع تزايدها في اطراد مع حملة المعاش المبكر وطرد عمال القطاع العام، أضف ما يجرى من تنفيذ لقانون طرد الفلاحين (تعديل علاقة المالك والمستأجر للأرض) وهو ما يهدد بطرد مليون و250 ألف مستأجر إلى رصيف البطالة والبؤس، وفى الوقت الذي تتفاقم فيه ظواهر الإسكان الترفي، وتعرض شقق بأسعار تصل إلى عدة ملايين من الجنيهات للشقة الواحدة، ويحجز الملاك ملايين الشقق الخالية رغم تحرير الإيجارات الجديدة، في الوقت نفسه تتفاقم أزمة الإسكان حتى تحولت إلى مأساة إنسانية اجتماعية مدمرة، وتتزايد ظاهرة الإسكان العشوائي بصورٍ عديدة بينها سكن العشوائيات وسكن الإيواء وسكن المقابر وسكن الشرك وسكن المساجد وسكن الدكاكين وسكن قبوات السلالم وسكن المخابئ وسكن البدرومات وسكن القوارب وسكن العشش وسكن الزبالين، ويقدر أن 86.2% من إجمالي الأسر في مصر تعيش في سكن غير ملائم بينهم 25% من إجمالي السكان يعيشون في العشوائيات، ورغم الزيادة النسبية في الإنفاق على التعليم إلى 10% من الإنفاق العام (كانت في الستينيات 15%)، رغم ذلك يتدهور التعليم، وتتعقد الصورة بإهدار مبدأ تكافؤ الفرص وإنشاء جامعات خاصة والأخطر: تعدد الأنظمة التعليمية والتوسع في التعليم الأجنبي من الحضانة حتى الجامعة، وهو ما ينشئ طبقية تعليمية ويضيف نخبا متعلمة مغتربة عن سياق المجتمع وهمومه وملتحقة بمصالح الغرب وظنونه، أضف لذلك ضآلة الإنفاق على البحث العلمي، ميزانية البحث العلمي في مصر أقل من 0.2% ("إسرائيل" مثلا تخصص نسبة 3% من الدخل للبحث العلمي)، والعجيب: أن 80% من الإنفاق بالغ التواضع يخصص للأجور والرواتب والبدلات، والمعنى: أن الأبحاث نفسها يكاد لا ينفق عليها شيء تقريبا، رغم وجود ثروة بشرية من العاملين في البحث العلمي تصل إلى 114ألف شخص من العلميين والمهندسين والفنيين والمعاونين، الأعجب: أنه لا توجد استراتيجية وطنية للعلم والتكنولوجيا، فقد توقفت مشاريع التطوير التكنولوجي الطموحة التي بدأت في الستينيات، وقتها كانت لدى مصر خطة تقدم طموحة، وكانت لدينا مشاريع لإنتاج طائرة "القاهرة 2000"، وصواريخ "القاهر"، و"الظافر"، و"الرائد"، وأدت المشروعات كلها، وأجهض البرنامج النووي في السبعينيات والثمانينيات والتسعينات إلى اليوم بضغوط أمريكية.
ومع الفشل الاقتصادي والسحق الاجتماعي، زادت وطأة القهر والاستبداد السياسي، حرية تكوين الأحزاب معطلة تماما، فلجنة الأحزاب الحكومية هي التي تمنح وتمنع، فالحكومة هي التي تقرر اختيار من يعارضها وتعطى له الضوء الأخضر، والأحزاب التي سمح بها -أغلبها ورقية- خرجت من باب محكمة "استثنائية" هي الأخرى، ودورات الانتخاب النيابي يشوبها التزوير وبصورة وحشية، ومجلس الشعب يفتقد الشرعية بتقارير محكمة النقض وهى أعلى مراتب القضاء، والتدخل الإداري والأمني ثقيل الوطأة في انتخابات النقابات العمالية، والنقابات المهنية جرى اغتيالها بالقانون 100، وجرى فرض الحراسة على أكبرها وزنا وتأثيرا، وجرى حظر النشاط السياسي للطلاب وهيئات التدريس في الجامعات وتحولت اتحادات الطلاب إلى هيئات شبه معينة، وألفى نظام انتخاب العمداء والعمد، وقضايا الرأي تحال للمحاكم العسكرية، وقانون الطوارئ حل عمليا محل الدستور، وتحولت السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة إلى أفران تعذيب وسلخانات بشرية، وتفشت سياسة الضرب في المليان والقتل خارج القانون والاختفاء القسري واحتجاز الرهائن وتصاعدت أحداث العنف والعنف المضاد.
ومنحى جماعات العنف –الذي تراجعت ظواهره- مدان بلا جدال، لكن الدولة تصرفت أيضا كجماعة عنف في أغلب الأحيان، تصرفت خارج القانون بعنف البوليس واستهتارا به في المحاكم العسكرية، ولا يمكن عزل ظاهرة العنف عن سياقها الاجتماعي السياسي، فالتناقض الحاد بين الغنى والفقر سبب شعورا بالاستفزاز يصعب تجاهله، والصدمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية جمحت والشعور بالإحباط سد الطريق أمام المستقبل، وكان محتما أن تجمح أسباب العنف وموجباته، أضف لذلك ما جرى ويجرى من كبت سياسي وإغلاق لبعض الصحف وتقييد حقوق إصدارها إلى حد المنع البات إلا فيما ندر، أضف لذلك –أيضا- سياسات الإلحاق بأمريكا والتطبيع مع إسرائيل والخضوع لها باسم السلام، والنتيجة: زيادة منسوب السخط مع العجز عن التغيير أو التعبير أو حتى التنفيس، والنتيجة أيضا: انتفاضات تلقائية تأخذ طابعا اجتماعيا متزايدا، كمثال: ما جرى مع اعتصام وإضراب عمال كفر الدوار أوائل أكتوبر 1994، مثال أخر: انتفاضة الفلاحين خلال عام 1997، التي سقط خلالها عشرات الشهداء وجرى اعتقال مئات الفلاحين وطلائعهم المثقفة، وهى أوسع تمرد اجتماعي على امتداد القرن كله في مصر، وقد كانت تلك كلها علامات تشي بحالة انفصام متفاقم بين ظاهر مصر وباطنها، في الظاهر: يبدو الهدوء عقيمًا مخيمًا على السطح المصري، وفى الأعماق: "آبار غضب" تغلي وتفور، في الظاهر: تبدو مصر كأنها بغير شعب وبلا حركة سياسية متطورة، وفى الأعماق: "سياسة جوفية" كما حال الآبار الجوفية، وفى لحظة اجتماع الذلّ الاجتماعي إلى الذل القومي، مع أول صاروخ أمريكي سقط على رأس بغداد في حرب الاحتلال؛ زحف الغضب التلقائي الجارف إلى "ميدان التحرير"، رافعًا صور رمز الكرامة العربية الزعيم عبد الناصر ولم يكن ذلك في مصر فقط؛ إنما كان في أرجاء المعمورة العربية، وكذلك الجاليات العربية في أوروبا والأمريكتين؛ ودار صدام هو الأعنف –منذ أحداث انتفاضة 1977- بين جموع الغضب وقوات البوليس، والتحمت شعارات الغضب الاجتماعي السياسي مع شعارات الغضب القومي في هبة 20 و21 مارس 2003، والمغزى: أن ما جرى وقتها ينذر –مع تضاعف دواعي الغضب القومية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية- بانفجار وتفاعل تندفع إليه مصر، ونظن أن "ساعة الصفر" اقتربت أو توشك.
هذا جزء يسير من أحوال مصر والنتيجة: تداعى دور مصر ومكانتها، فمن يفقد قوته بالداخل لا يجد السند في الخارج، والسياسة الخارجية امتداد طبيعي للسياسة الداخلية، ولا سبيل لإنقاذ تستقيم به الحقائق مع الوقائع بغير التغيير السياسي الشامل، ومصر تطلب التغيير وتستحقه، فليس من طبائع الجغرافيا والتاريخ أن نبقى كما نحن.

الكرامة: خطة عبور
والسؤال: إلى أين من هنا؟
الزمان: سنوات معدودة بعد بدء الألفية الثالثة، والدنيا من حولنا فوارة موارة بالتحولات وسباق الأمم ويقظة الشعوب ونهضة الحضارات، والعرب في غيبوبة حضارية وسياسية واقتصادية وأمنية، ومصر حائرة البال موزعة النفس زائغة اليقين بين مقاديرها وأقدارها، مقاديرها قيدتها بأزمة مركبة لا تزال تعوق نهضتها وتقدمها، وأقدارها –بقوانين الجغرافيا وخبرات التاريخ ووعى العصر- تستنهض وتستحث إلى حل جذري يضعها في مكان يليق فوق ناطحة سحاب عربية، مصر غائبة عن دور.. أي دور، وآن لها أن تنهض إلى دور بطولة حجز لها وحجزت عنه.
وأول الطريق: خطة عبور، قبل ربع قرن كانت مصر تعبر من هزيمة خاطفة إلى نصر مخطوف، حولوا نصرها بالسلاح إلى الهزيمة بغير سلاح، ومدت الهزيمة يدها المسمومة إلى شغاف الروح، وكادت تصيب العصب بالعطب، ومصر مقيدة نعم، لكنها لم تمت ولن تموت، مصر مكبلة نعم، لكنها لم تفقد الأمل ولا قتلها السجن بالملل، مصر في قيودها نعم، لكنها -بالفطرة المطمورة- تعرف اتجاهات الرياح إلى مجدها العالي في فضاء البراح، مصر قد تختلط عليها السبل وإشارات المرور، لكنها -وهى المحروسة- لا ولن تضيع أبدا.
أول طريق مصر: عقد اجتماعي جديد في البيت الوطني، وعقد قومي جديد في البيت العربي، وعقد حضاري جديد تبتعث به دورها القيادي الطبيعي في وطنها العربي وعالمها الإسلامي والنامي وإلى مدى عينها المفتوحة على الشرق وفيض نيلها من الجنوب، العقد الاجتماعي الجديد يعيد تنظيم البيت الداخلي ويلبى الاحتياجات الأساسية للشعب بأعرض فئاته وطبقاته، ويضمن المشاركة -أوسع المشاركة- للقوى الحية جميعها في صياغات السياسة والاقتصاد والثقافة، والعقد القومي الجديد يعيد تنظيم العلاقات بين أقطار الوطن العربي، ويرشد طرق التصرف والتعامل ويقيم الأسوار الواقية عند "مناطق حرام" لا يجوز الخلاف أو الاختلاف فيها أو عليها، ومهما بلغت الضغوط وكانت الظروف، ويعطى للأمة فرصها في التقاط الأنفاس وإمعان البصر في مغزى ما يوجد وجدوى ما يجب، نريد بالعقد الاجتماعي -مع العقد القومي- أن نبنى مجتمع العزة والكرامة ومجتمع الكفاية والعدل، ومجتمع الوحدة العربية.
والعقد الاجتماعي -مع العقد القومي والعقد الحضاري- كلمة السر في خطة العبور للنهضة وهو الأصل والأساس في مجتمعنا الذي ننشده، وفى برنامجنا الذي نسعى لتحقيقه، ونرى –فيما يلي- عددا من رءوس الجسور. . بينها:
أولاً: نسعى لبناء مجتمع الإرادة الوطنية
الذي يبدأ بالاعتراف بحقائق الجغرافيا والتاريخ التي نسجت حلقات الربط بين الأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي، فمصر هي حلقة الوصل بين أقطار المشرق العربي وأقطار المغرب العربي، وهى حلقة الوصل بين أسيا وأفريقيا، وبين البحرين الأحمر والأبيض، وموقع مصر مصدر ضعف لها إذا ما استكانت ووقعت فريسة للأطماع الأجنبية، وهو مصدر قوة لها إذا ما اتبعت سياسة قومية عربية نشيطة وإيجابية، ولا تستطيع مصر -كأي دولة- ضمان أمنها بدون قوة عسكرية كافية ومجتمع متماسك واقتصاد قادر متوازن، وخطوط الدفاع عن مصر تبدأ شمالا عند الحدود التركية وشرقا عند شواطئ الخليج وجنوبا عند أعالي النيل وغربا عند حافة المحيط الأطلنطي، وهو ما يوجب على مصر أن تقوم من أجل عودة دورها القيادي العمل على محورين، أولهما الداخلي الذي يتجه إلى توفير قوت الشعب من عمل الشعب، والتخلص من التبعية وبناء التنمية المستقلة واعتماد الديمقراطية أسلوبا للإبداع والتقدم. وثانيهما أن تقوم مصر بدورها القيادي في إنهاء حالات الحصار والاحتلال المفروض على بعض الأقطار العربية، وبناء الوحدة من أسفل بين الشعب العربي في كل الأقطار العربية ووجود (إسرائيل) في ذاته يمثل أفدح الأخطار على أمن مصر والعرب جميعا وهو ما يوجب دورا مصريا قياديا عاجلا في تصفية التناقضات العربية/ العربية وتوفير وسائل العلاج المبكر للأزمات وفض المنازعات سلميا ووقف إيذاء الشعوب بخلافات الحكام، واعتبار حرب العربي مع العربي منطقة حرام، وتعزيز التضامن العربي بمؤتمرات قمة جادة تُعقد سنويا، وبعث الفاعلية في الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك، ودعوة الأقطار العربية التي تقيم فيها عمالة أجنبية إلى إنهاء وجودها والاستعاضة عنها بعمالة عربية، وتقليص فجوة الغذاء المهددة للأمن القومي بتكامل أقطار النفط مع أقطار الماء و"حزام القمح" في مصر والسودان والعراق وسوريا والمغرب، ومطابقة خرائط الأمن مع خرائط الماء بمواجهة المخاطر القادمة من دول المنابع في تركيا وأثيوبيا، وفض تحالفهما مع (إسرائيل)، ورد إريتريا لعروبتها وفض تعاونها مع (إسرائيل) في جزر البحر الأحمر، واسترداد عافية الصومال وإعادة توحيدها، وتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، واستبدال المناورات العسكرية مع الأجانب بمناورات دورية مشتركة للجيوش العربية، وإقامة حلف عسكري عربي بعد التخلص من القواعد العسكرية الأجنبية في بعض الأقطار العربية، وتوفير الإنفاق الجنوني على شراء السلاح لدعم إنشاء وتطوير هيئة عربية مشتركة للتصنيع العسكري، ودعم التصنيع العسكري في المجالات الحساسة خاصة صناعة الصواريخ بعيدة المدى، وجلب تكنولوجيا الأقمار الصناعية وإطلاقها، وإنشاء هيئة عربية نووية تكون سبيلنا لدخول نادى الكبار وامتلاك ترسانة واقية من القنابل النووية، والعمل على امتلاك اعتبارات القوة الشاملة التي تمكننا من رفض القواعد وإلغاء التسهيلات ووقف المناورات العسكرية المشتركة مع أمريكا ورفض المعونة الأمريكية وتصفية مؤسساتها العاملة على أرض مصر، وحظر الاختراق الأجنبي لكافة المنظمات والجهات الرسمية والأهلية، وقطع جميع العلاقات مع العدو الصهيوني.. وطرد سفارته القائمة على أرض مصر، ورد الاعتبار لشهداء المقاومة ضد كامب ديفيد وفى مقدمتهم محمود نور الدين وسعد حلاوة وسليمان خاطر، والخروج من كامب ديفيد، وإنهاء التزاماتنا بموجب ما تسمى "معاهدة السلام" ولواحقها ذات الصلة، وطرد القوات الأمريكية ومحطات الإنذار المبكر من سيناء، وإلغاء المناطق المخفضة ومنزوعة السلاح، وإعادة فرض سيطرة الجيش المصري على سيناء بالكامل حتى خط الحدود مع فلسطين المحتلة، والعمل لاستعادة قرية أم الرشراش المصرية (إيلات حاليا) المحتلة في أعقاب حرب 1948، ومطالبة الأقطار العربية التي عقدت اتفاقات إذعان مع العدو بإلغاء تلك الاتفاقات، وتجريم وتخوين كل اتصال بإسرائيل، وإعادة بناء جدار المقاطعة العربية الشاملة، واحتضان العمل الفدائي الاستشهادي المسلح على جبهات المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، وتنمية استعداد الجيوش العربية للحرب حين تفرض، وتنظيم جهد عربي شعبي متصل لدعم مقدرة شعبنا الفلسطيني على الانتفاض والبقاء على أرضه المقدسة، ورفض التفريط بشبر من أراضينا المحتلة في جنوب لبنان والجولان وفلسطين كلها وكافة الأراضي العربية في الاسكندرونة وسبتة وملية.
ثانيًا: نسعى لبناء مجتمع الوحدة العربية
ونعتبرها أهم أهدافنا وأعز أمانينا، ونعرف أن الوحدة هدف صعب لكنه ممكن، ولا نهضة لنا بدونه غير أن طريقنا إليها هو بناء الوحدة من أسفل عبر الجهود الشعبية ووعى الجماهير ومبادراتها وطريق الوحدة يبدأ بالدور الإيجابي للمواطن الفرد يتوج بإرادة القرار السياسي لإتمام الوحدة، فلا فرصة لتنمية مستقلة ناجحة لا تتكامل عربيا، ونحن نؤمن ونسعى لتكامل ووحدة اقتصادية عربية لا مجرد تعاون أو منطقة مشتركة للتجارة الحرة، وسبيلنا هو إحياء اتفاقية الوحدة الاقتصادية والميثاق الاقتصادي العربي والعمل على انضمام جميع الأقطار العربية إليها، ووضع خطة تربط الاقتصادات العربية، وتحقيق تكامل إنتاجي مبنى على تقسيم العمل، وتخصص اقتصاد كل قطر في أنشطة إنتاجية بعينها تساعد على تعميق الصناعة العربية والنهوض بالصناعات المتطورة، ووضع برنامج تمويل لخطة التكامل، وقيام الصناديق العربية بتنفيذه، ودعم صندوق النقد العربي وتوجيهه إلى دوره في مساعدة الأقطار الأعضاء على مواجهة العجز في ميزان المدفوعات لتمكينها من أداء نصيبها في الخطة القومية، وإنشاء مؤسسات مالية قوية تقوم بحماية الأموال العربية المهاجرة وإعادة توطينها في استثمارات قومية، وتشجيع رءوس الأموال الخاصة على العمل المشترك، والعمل على إنشاء شركات عربية متعددة الجنسية تقوم بالتنافس الإنتاجي مع الشركات الدولية داخل الوطن العربي وخارجه، ويمكن البدء بتوحيد قطاعات نوعية معينة أو إنشاء تكتل اقتصادي من مصر وأقطار أكثر استعدادا على أن يضم له الجميع لاحقا، ونعرف أنه لا فرصة لتكامل اقتصادي دون أن تكون السياسة دليله، فالإرادة السياسية هي الأساس في طلب الوحدة على اختلاف وتعدد صورها الدستورية، ونقطة البداية هي دور المواطن في نسج شبكة الوحدة من متطلبات الحياة نفسها، وهذا هو طريق بناء معمار الوحدة الذي يكتمل بالقرار السياسي، ومن هنا كان لابد من النضال من أجل إقرار "حق المواطنة القومية" ومنح كل عربي حرية اختيار الإقامة في أي قطر والتمتع بكل حقوق ومزايا مواطن القطر نفسه في كافة المجالات، وضمان حرية التنقل بين الأقطار بدون تأشيرة مسبقة وبجواز سفر عربي موحد، وإسقاط الحظر القانوني "القطري" على إنشاء أحزاب ونقابات وجمعيات قومية التكوين وتعزيز الاتحادات والهيئات القومية العربية، وتوفير تمثيل شعبي يراقب أداء مؤسسات الجامعة العربية لمهامها ويساعد على تنفيذ القرارات، وتكوين تحالف عربي جامع يضم العناصر المتقاربة من القوميين والإسلاميين واليساريين والليبراليين، وتكوين "برلمان للشعب العربي" بانتخابات حرة مباشرة على أساس الأوزان السكانية، والاتجاه لخلق عمود فقرى صلب للوحدة الشاملة باتحاد جديد يضم مصر مع ليبيا والسودان وسوريا، وهى أقطار سبق لها أن دخلت في تجارب أو مشاريع وحدوية، ونتصور أن يكون الاتحاد الجديد قطبا جاذبا لجناحي الخليج والمغرب مع بقية أقطار العرب.
كما أن الدفع الشعبي العربي خلف مشاريع التكامل الاقتصادي العربي، والتي تستهدف تحقيق عدد من الأنشطة والبرامج مثل منطقة التجارة الحرة العربية، ومنطقة استثمارية عربية، وقيام اتحاد جمركي عربي، وكذلك منطقة تكنولوجية عربية، ومنطقة خدمات حرة، ومنطقة مواطنة عربية حيث تعطى فيها اقل حقوق المواطنة للمشتركين فيها، ومنطقة صناعة عربية، والعمل كذلك على تأسيس شركات قابضة عربية تعمل على تنفيذ وبناء استراتيجية التكامل العربي.
ثالثًا: نسعى لبناء المجتمع الديمقراطي
بإصدار دستور جديد يجسد الإجماع الوطني في مؤتمر تأسيسي منتخب، وجعل مدة الرئاسة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وإلغاء نظام الاستفتاء واستبداله بالانتخاب الشعبي المباشر للرئيس ونائبه بين مرشحين متعددين، وتخلى الرئيس ونائبه المنتخبين عن صفتهما الحزبية حتى انتهاء مدة ولايتهما، ووقف العمل بحالة الطوارئ، وعدم جواز تجديدها إلا لمواجهة كارثة طبيعية أو حالة حرب أو اضطرابات داخلية مسلحة ويكون إعلان الطوارئ بقرار من الرئيس لمدة ثلاثين يوما على الأكثر، ويجب عرض الإعلان على البرلمان خلال سبعة أيام من صدوره وإذا لم يعرض في الموعد المحدد أو عرض ولم تتم الموافقة عليه، اعتبر كأن لم يكن، ولا يجوز تجديد الطوارئ إلا بقرار جديد من البرلمان وفى حدود المدة نفسها، وإلغاء كافة القوانين السالبة للحريات، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب مع إلزامها قانونا بتداول السلطة داخل مستوياتها التنظيمية كل أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وحرية تكوين النقابات العمالية والمهنية المعبرة عن الاختيار من قبل المنتمين إليها ومباشرة نشاطها طبقا للوائح تضعها بنفسها وانتخاب مجالس إدارتها دون أي تدخل من الأجهزة الإدارية، وتحرير النقابات المهنية من الحراسة والقانون 100وملحقاته، وإجراء انتخاباتها وفقًا للوائحها، وتأكيد استقلالية الحركة النقابية والتعاونية والطلابية والجمعيات والروابط والمنتديات، وحرية إصدار الصحف وإنشاء محطات الإذاعة وقنوات التليفزيون، وإقرار حقوق الاجتماع والإضراب والتظاهر والاعتصام السلمي، وتأكيد الإشراف القضائي التام على كافة مراحل العملية الانتخابية وفى جميع أنواعها وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على أسس موضوعية تحت إشراف القضاء وإعطاء القضاء وحده حق الفصل في كافة المنازعات المتعلقة بصحة العملية الانتخابية أو النتائج الناشئة عنها، أو الآثار المترتبة عليها، واشتراط توقيع الناخب أو بصمته في الكشف المعد للحضور مع بيان المستند المثبت لشخصيته، وإعداد جداول جديدة لقيد الناخبين على أن يكون القيد في جداول القيد تلقائيا بدون تقديم طلب لكل من وصل عمره الثامنة عشر، وتكريس نظام الانتخاب بالقوائم النسبية دستوريا لتعزيز الوعي السياسي عند الناخبين، وضمان الرقابة الدستورية المسبقة على القوانين قبل إقرارها برلمانيا لوقف الفوضى التشريعية، ومحاكمة المسئولين عن انتخابات ثبت فسادها وبطلانها بتقارير وأحكام قضائية، واعتبار تزييف الانتخابات جريمة مخلة بالشرف لا تسقط بالتقادم وينشأ عنها حق التعويض على من ارتكبها شخصا والجهة التابع لها، وإعطاء الأفراد حق رفع الدعوى الجنائية بالطريق المباشر في جرائم الفساد السياسي والانحراف بالسلطة والجرائم الانتخابية وجرائم التعذيب، وعدم إسقاط أي من هذه الجرائم بالتقادم، وإحالة المسئولين عن جرائم التعذيب في السجون وأقسام الشرطة إلى محاكمات عاجلة، وإنهاء تبعية السجون لوزارة الداخلية ونقلها إلى المجلس الأعلى للقضاء، وتحرير العدالة من كل صور الارتباط بالسلطة التنفيذية، وضمان الاستقلال التام لسلطة الادعاء والتقاضي بتعاقب درجاته، والفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق خاصة في الجرائم المضرة بأمن الحكومة، وإلغاء تبعية النائب العام والتفتيش القضائي ورؤساء المحاكم الابتدائية لوزير العدل، ومنع انتداب القضاة لأعمال غير قضائية، ومنع توليهم أية مناصب إدارية أو سياسية خلال خمس سنوات من تركهم القضاء العادي، وقصر رئاسة المجلس الأعلى للهيئات القضائية على رئيس محكمة النقض، وإلغاء كافة صور الادعاء والقضاء الاستثنائي، وإقرار حق كل مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي المنصوص عليه في قانوني السلطة القضائية ومجلس الدولة، وقصر اختصاص المحاكم العسكرية على جرائم إخلال العسكريين بالانضباط العسكري، وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والمدنيين المسجونين بقرارات المحاكم العسكرية، وتأكيد حقوق الإنسان -كافة حقوق الإنسان- في الحياة والحرية والكرامة، وحرية الاعتقاد والتعبير والاتصال والمعرفة والاجتماع والمشاركة في الحياة العامة، وحقوق الإنسان في العمل وحد أدنى للأجر مع ربط الأجر بالأسعار، وتساوى الأجور عند تساوى العمل وحقوق التعليم والصحة والمسكن اللائق والمعاش والضمان الاجتماعي ضد البطالة أو المرض أو العجز، وعدالة توزيع الدخل القومي، وحقوق الإنسان في حرمة المراسلات والمسكن والبدن وحمايته من الإيذاء والتعذيب النفسي والجسدي، وتحريم الحبس التعسفي والحبس الاحتياطي إلا بأمر من السلطة القضائية وفى حدود القانون، والمراجعة الشاملة لكل المنظومة القانونية الحاكمة لعلاقة السلطة بالشعب وعلاقة المواطنين بعضهم ببعض وعلاقة المؤسسات بعضها ببعض وذلك حتى يتناسب القانون مع قواعد العدل وروح العصر، وحق الإنسان في المعلومات، وتحرير حركة النساء من قيودها، وتأكيد مساواة المرأة بالرجل في تولى الوظائف والمناصب العامة. إذا كانت النظم النيابية تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات؛ بمعنى الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث في الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، مع تحقيق وقيام التعاون فيما بينها لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام في ظل وجود رقابة متبادلة بينهما لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها دون أن تجاوزها، أو تعتدي على سلطة أخرى. وقد كان هذا المبدأ الذي وضعه مونتسيكو؛ إلا أن التطبيق العملي والفعلي قد شهد سيادة نظامين هما النظام الرئاسي والنظام البرلماني، وهما النظامان اللذان عرفتهما مصر منذ دستور عام 1923 حتى الآن، وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السلطة التنفيذية وهى إحدى السلطات الثلاث تجور على السلطتين التشريعية والقضائية فيكون ذلك إهدارا صارخًا لمبدأ سيادة الشعب؛ الأمر الذي يفرض الأخذ بنظام المجلس المعروف باسم الجمعية النيابية، ويقوم نظام حكومة الجمعية النيابية على أساس تبعية السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية واندماجها فيها؛ إذ تتولى الجمعية النيابية الوظيفة التشريعية، وتعهد إلى لجنة خاصة تخضع لتوجيهها بتولي الوظيفة التنفيذية، ولهذا يطلق على نظم حكومة الجمعية النيابية "النظام المجلسي". ويتميز النظام المجلسي بخاصيتين أساسيتين؛ الأولى: اجتماع السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد البرلمان المنتخب من الشعب هو الذي يقبض بيده على ناصية الأمور في البلاد، ويضطلع بكافة السلطات سواء المشرعة أو المنفذة، وبناء على ذلك يقوم البرلمان بتعيين الوزراء، واختيار رئيس الوزراء لإدارة دفة الشئون التنفيذية في الدولة، والثانية: يترتب على تجميع السلطات في يد البرلمان، وعلى قيامه باختيار أعضاء السلطة التنفيذية خضوع هذه الأخيرة خضوعًا تامًا، وتبعيتها تبعية كاملة للبرلمان، وتفصيل ذلك أن البرلمان يتولى توجيه الحكومة والإشراف عليها في عملها، بما يتيح لها الحق في تعديل قراراتها أو إلغاؤها، ويكون الوزراء مسئولين سياسيًا عن عملهم أمام البرلمان، الذي يستطيع عزلهم إذا ما أساءوا استعمال السلطة أو انحرفوا بها عن طريق تحقيق المصلحة العامة. وهكذا لا يوجد في النظام المجلسى التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما هو الحال في النظام البرلماني، وإنما تسال الحكومة بكامل أعضائها ورئيسها مسئولية كاملة أمام البرلمان. أن ما فعلته ومارسته السلطة التنفيذية من قهر على الشعب، وعلى سلطته التشريعية ممثلاً في مجلسه، ثم ما مارسته على السلطة القضائية من تدخل سافر في شئون العدالة، وإهدارا صارخًا للأحكام القضائية الصادرة عنها أمر يستلزم من كل إنسان عربي حر أن يرد السلطة التنفيذية إلى حدودها وصوابها بأن يعود الأمر برمته إلى الشعب ليوقف هذا الزحف من قِبل الشرطة التي تسللت إلى كل موقع، وكل شبر، تحكم وتتحكم فيه بلا ضابط أو مرجعية لها تحت زعم الخوف على الأمن والاستقرار.
من هنا فإننا نرى أن استرداد الشعب لسيادته لن يتحقق إلا بأن نتبع نظامًا نيابيًا جديدًا يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي؛ حتى ولو كان ذلك لفترة محدودة مع إطلاق سلطة القضاء كاملة في ممارسة فعلية وواقعية لوظيفته، مع إلغاء وزارة العدل التي تغتصب اختصاصات هذه السلطة، وتحويلها إلى وزارة دولة للإشراف على هيئة قضايا الدولة، والنيابة الإدارية، ومصلحة التوثيق والشهر العقاري. وإنشاء شرطة قضائية مستقلة لتنفيذ الأحكام والأوامر والقرارات القضائية، وتتولى الإشراف على السجون، والنظام داخل أبنية المحاكم.
ولا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي إلا باستقلال المجتمع الأهلي، برفع كل وصاية إدارية وأمنية عل حركة الجماعات الأهلية، ومنع تعيين موظفين حكوميين في مجالس إداراتها، وكفالة استقلالها الداخلي، وديمقراطية عملها، وحق مؤسسيها في اختيار مجالات النشاط وأساليبه ووسائله، وحظر حل الجمعيات الأهلية بقرار إداري، والاحتكام للقضاء وحده في أي نزاع ينشأ ويتعذر حلة بالتراضي، وإلغاء حق وزير الداخلية في الاعتراض على قرارات وأحكام المحاكم، وتحرير العمل الأهلي من التمويل الأجنبي بمزالقه الخطرة، وإنشاء اتحادات طوعية نوعية أو إقليمية للجمعيات الأهلية مع -أو بدون- جمعيات التعاون لتنسيق تكامل الأنشطة، وتأكيد دور المنظمات الأهلية في الدفاع العملي عن الحقوق ومحو الأمية وحماية البيئة ومساعدة الفقراء والخدمات الثقافية وتعزيز الرعاية الصحية وحماية المستهلكين وتنمية المجتمعات المحلية .. وغيرها، والجمعيات الأهلية ليست الصورة الوحيدة لتفجير حيوية المجتمع، فهناك جمعيات التعاون وهى تقوم بأدوار ظاهرة، ويمكن أيضا إيجاد هيئة أهلية مستقلة معتبرة لتنظيم تحصيل الزكاة والصدقات والعشور، والحث على تقديم تبرعات تخصم من الضرائب المستحقة، وتضاف الحصيلة لميزانيات الرعاية، ويمكن أيضا تعزيز قيم التكافل الاجتماعي بإحياء نظام "الوقف" الأهلي وتجديده والتشجيع عليه بما يتمشى مع الظروف، فالوقف صدقة جارية يتصدق بها صاحبها ليتم إنفاقها في وجوه البر والخيرات والمنافع العامة، ويجب إزالة القيود الإدارية والقانونية التي تحول دون إنشاء أوقاف جديدة، وإدارة الأوقاف يجب أن تعود أهلية مستقلة، ولا يجب إنفاق عوائدها في غير ما هي موقوفة عليه، كما يجب عودة الأزهر لدورة الريادي والتنويري، وتحريره من وصاية السلطة التنفيذية، وذلك بانتخاب شيخ الأزهر من "جماعة علماء الأزهر" وطاقات العمل الأهلي بلا حدود لو أحسن استثمارها في مجتمع يتنفس أريحية ويهفو إلى التطوع في خدمة الجماعة، والعمل الأهلي هو أرحب المجالات لبناء حركة وطنية جامعة، والاستفادة من جهود الحركة النسائية، وفى مصر أكثر من 15 أ لف منظمة أهلية أغلبها معطل، وفى الوطن العربي كله نحو 100 ألف منظمة أهلية، ولنا أن نتصور مدى اتساع وعمق القواعد التي يمكن أن تنهض عليها عمارة هائلة لحركة نساء حقيقية يحتاجها مجتمع يختنق بإحباطاته ويغلى بتوتراته.
رابعًا: نسعى لبناء المجتمع العلمي
فهو اختيار مصيري، ولا نبالغ لو قلنا أننا نكون بالعلم والتكنولوجيا أو لا نكون، وقد تأخرت بلادنا كثيرا عن اللحاق بالركب، كانت لنا محاولات مبكرة في اكتساب وتطوير التكنولوجيا النووية والإلكترونيات، ومع إجهاض النهضة ضاع الحلم، وأصبحنا من بلاد "التكنولوجيا الزائرة" أو "التكنولوجيا المستعارة" المحجوزة بأسرارها لفروع الشركات المتعدية الجنسيات، والنتيجة: تخلف قدراتنا التصنيعية مع سنوات التبعية السياسية والاقتصادية، أيضا جرى إجهاض برنامجنا النووي المبكر، بدأنا البرنامج أواخر الخمسينيات، وجرى إنشاء مفاعل إنشاص الذرى سنة 1961، وتكونت قاعدة واسعة من العلماء والفنيين، كما جرى صنع محرك الطائرة القاهرة 2000، وصنع صواريخ كان من الممكن تطويرها لتحمل أقمارا صناعية إلى المدار (القاهر- الظافر- الرائد) لقد كانت مصر متفوقة في هذا المضمار على دول كثيرة دخلت مجالات الطيران والفضاء بعد ذلك ومنها (إسرائيل).
وإذا كانت هذه التجربة قد أجهضت بسبب الحرب الموجهة ضدنا من قبل الاستعمار والصهيونية، فهي مازالت مستمرة في فرض الإخفاق والفشل بتوقف ثلاثة مشاريع مهمة هي: مفاعل برج العرب ومحطة سيدي كرير النووية ومحطة الضبعة النووية. والتأخر في البرنامج النووي ارتبط بتأخر عام في البرامج التكنولوجية، ولم تعد لنا غير فرصة أخيرة قبل التطبيق الكامل لاتفاقات الجات في حماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وتغليظ تبعات نقل التكنولوجيا، ونتصور أنها أصبحت مسألة حياة أو موت، ولا بديل عن تبنى خطة وطنية شاملة لاكتساب ونقل وتطوير التكنولوجيا والعلم الحديث في مختلف جوانب الحياة في مصر، في الإنتاج، والخدمات، وتنمية الموارد المخصصة للبحث العلمي والتكنولوجيا من ميزانية الدولة والضريبة المفروضة على المؤسسات العامة والخاصة لصالح التعليم والبحث العلمي، على أن تصل الميزانية المخصصة لهذه المجالات ما يساوى 3% من الدخل القومي بحد أدنى، وتقديم كافة الحوافز التمويلية والإعفاءات الضريبية والجمركية لمشروعات التطوير البحثي ونقل التكنولوجيا والمعلومات، وتنمية التعاون التكنولوجي مع دول متقدمة كاليابان وفرنسا وألمانيا وتكثيف التعاون التكنولوجي مع دول الموجة الثانية في شرق أسيا وأمريكا اللاتينية، وتشكيل مجموعات علمية واستثمارية متخصصة لشراء عقود التكنولوجيا ونقل التصميمات، وتركيز جهود الإبداع والابتكار، وإعادة تنظيم هيئات ومراكز البحث العلمي وتخليصها من البيروقراطية واجتذاب العلماء المصرين والعرب المتميزين في بلاد الهجرة المتقدمة، والاهتمام بإرسال البعثات العلمية إلى البلدان المتقدمة، وصياغة استراتيجية وطنية لتحديد فروع الصناعة والتكنولوجيات المتقدمة ذات الأولوية (الإلكترونيات- الحاسبات- تحلية المياه- الأدوية- الهندسة الوراثية- المواد البديلة- الطاقات المتجددة) وما يرتبط بها من المعلوماتية وتقنية الاتصال والتكنولوجيات المتقدمة القادرة على رفع الإنتاجية بدون رأس المال، وكذلك إنشاء وأدى سيليكون في مصر لتصنيع شرائح السيليكون لكسر تفوق (إسرائيل) في صناعة المعلومات، وضرورة حشد كل الموارد المالية والبحثية العربية في برنامج تكنولوجي موحد، وتخصيص نسبة 3% على الأقل من الناتج العربي كله لنقل التكنولوجيا وتطوير البحوث الأساسية أو إنشاء جامعة عربية لعلوم المستقبل ومدينة بحوث عربية وهيئة عربية لأبحاث الفضاء وهيئة عربية لبحوث تحلية المياه.
وطبيعي أن نجاح القفزة المطلوبة مرتبط بمجانية التعليم والتوسع في سنوات الدراسة الإلزامية ومنع التسرب في تلك المرحلة الإلزامية، والتطوير الجذري في مناهج التعليم وبالذات في جوانبه الرياضية والعلمية والتكنولوجية والوطنية والدينية بحيث يتحول من التلقين والحفظ إلى البحث وتحفيز وصقل القدرات، وتنمية الشخصية، كما أن التطوير لابد أن يشمل التعليم الجامعي والدراسات العليا وذلك باستهداف رفع مستوى الكيف والتخصص، ورفع سن الإلزام إلى نهاية المرحلة الثانوية وتبنى مفهوم الشجرة التعليمية الذي يتيح أكبر عدد من التخصصات والفروع في المراحل الوسطى والعليا، وإتاحة برامج التعليم المستمر للخريجين لاستيعاب الطفرات الجديدة في المعارف العلمية، والتوسع في التعليم المفتوح في مجالات العلوم الإنسانية والتطبيقية لإعطاء مزيد من فرص الترقي والتثقيف، وتوحيد نظام التعليم وربط نوعية الخريجين بالفرص المتاحة والمستهدفة في سوق العمل، وتبنى خطة شاملة لمحو عار الأمية الأبجدية خلال ثلاث سنوات تعبأ فيها جهود المجتمع بكافة أجهزته ومؤسساته ووسائله الإعلامية والثقافية والسعي لنشر الثقافة العلمية عبر الدوريات العلمية والكتاب العلمي للطفل وقصص الخيال العلمي ونشر المنتديات والنوادي العلمية، والاهتمام بالموهوبين والمخترعين والعمل على ربطهم بمؤسسات البحث العلمي ومؤسسات الإنتاج العامة والخاصة، التطوير المستمر للمناهج التعليمية والتربوية، والإعداد الدائم عبر الدورات المكثفة للمعلم من أجل الارتفاع بمستواه، والعمل على نشر مناهج الكمبيوتر والإنترنت في كافة مجالات التعليم ومراحله، وتأصيل الديمقراطية داخل كافة برامج التعليم ومراحله وذلك عبر إعداد المعلم والمناهج التعليمية وطريقة التعليم وإفساح الفرصة للطلاب في إبداء رأيهم بشأن ذلك، العمل على زيادة مدارس ورياض الحضانة قبل السادسة والاهتمام بمناهج التربية والتعليم بها، إعطاء صلاحيات كاملة للجامعة كوحدة مستقلة على أن يتم انتخاب رئيس الجامعة وعمداء الكليات وإعطاء كافة الحقوق الديمقراطية للجامعات من أجل تسييد المناخ العلمي والديمقراطي في تلك المؤسسة العلمية المهمة وعودة موقع أستاذ كرسي والتقدم له عبر الترشيح بالأبحاث المحكمة، وربط الترقيات بتقديم أبحاث محكمة ومنشورة في دوريات علمية عالمية وإقليمية.
خامسا: نسعى لبناء مجتمع الشفافية واقتلاع الفساد
الفساد في بلادنا أكبر من اختلال قيم وتداعى أخلاق، وأوسع من ثقافة استهلاك غذت تطلعات تقصر عن تلبيتها دخول وموارد، وأخطر من ضياع الحدود بين الحلال والحرام فهناك علاقة مصاهرة وزواج -غير مشروعة- بين السلطة والثروة والإعلام والفساد والتطبيع والقمع، فهناك فساد بالتشريعات بمد الحبال للفساد بالاقتصاد، قوانين وثغرات واستثناءات ينفذ منها أصحاب المصالح بتواطؤ ظاهر مع أصحاب السلطات، وقرارات تصدر وكأنها مدفوعة الأجر محسوبة العوائد الشخصية، ومساومات في الكواليس وأحكام قضائية لا تجد سبيلها للتنفيذ، وحصار لأجهزة وسلطات الرقابة، وحجب للمعلومات ومنع تداولها في الصحف، وإدارة للمؤسسات وكأنها من بواقي الأملاك الفردية، ودعم لسلطة المال بسلطة العنف جعل البلطجة هي الدستور المرعى وإن لم يكن مكتوبا، ونهب بأحجام مخيفة حول الفساد من ظاهرة إلى مؤسسة مافيا تستنزف الرصيد الباقي من ثروة الوطن ومقدرة المجتمع على الاحتمال والبقاء والتعايش المأمون، وإلى حد أن تقارير المنظمة العالمية للشفافية تكشف أن مصر من الدول المصنفة في المجموعة الرابعة في ترتيب دول العالم من حيث الفساد وهى الأقل نظافة والأكثر فسادا، ومقاومة الفساد أصبحت من "فروض العين" أو "فروض الكفاية" فهي تستوجب شن حملة واسعة منظمة من مواقع القانون والاتصال الجماهيري والإعلام الحر، وتستوجب التأكيد على حق هيئات الشعب في طلب بيانات ومعلومات تيسر لها فرص القيام بدور رقابي مباشر، وإعطاء الأفراد -بغير اشتراط ا لمصلحة المباشرة- حق إقامة دعاوى جنائية ضد ظواهر الفساد كافة، ومنح الاستقلالية الكاملة والحصانة القضائية للرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات وإلزام أجهزة الرقابة -قانونا- بنشر معلوماتها وتقاريرها في الصحف وتوفيرها لمن يطلب، وإصدار تشريع لمحاكمة الوزراء ورئيس الجمهورية عند الحاجة وإلزام الرئيس والوزراء والوكلاء والمحافظين وأعضاء البرلمان ورؤساء الهيئات والشركات والمؤسسات العامة وقيادات الأحزاب وهيئات المجتمع الأهلي وكل الشخصيات العامة ومن في درجتهم وأزواجهم وأصولهم وفروعهم، إلزام كل هؤلاء بتقديم إقرارات ذمة مالية علنية تنشر في الصحف ووسائل الإعلام كافة، وتقدم بما لديه من معلومات مخالفة لبياناتها لنشرها في الصحف أو دفعها أمام القضاء، ومنع قيام ا لمسئولين أو ذويهم بأعمال القطاع الخاص لمدة خمس سنوات بعد ترك مناصبهم، والتطبيق الحازم لقانون: من أين لك هذا؟ والمصادرة الكاملة للأنشطة والثروات مجهولة المصدر أو التي يثبت تهرب صاحبها من الضرائب، وطبيعي أن هذه الإجراءات –وغيرها- تدعم حملة الأيدي النظيفة، لكن اقتلاع الفساد من جذوره يحتاج إلى تغيير جذري في السياسات القائمة.
سادسا: نسعى لبناء مجتمع التنمية المستقلة
والتنمية المستقلة تقوم على مبدأ الاعتماد عل النفس ونقطة المنطلق تنمية البشر ومن بعده تطور الإنتاج المحكوم بإعداد البشر القادرين بدنيا وعقليا ونفسيا على التعامل المتقدم مع البيئة واستخدام أدوات الإنتاج الحديثة، ومن هنا تبرز قضايا التنمية البشرية مثل الأمية الأبجدية والثقافية وتدهور أحوال التعليم وتخلفه وسوء التغذية في مرحلة النمو، وانعدام الكثير من الصحة الوقائية والتقتير الشديد في علاج الفقراء ومحدودي الدخل، وتدهور البيئة ليصيب الفقراء والأغنياء على السواء، والبطالة والفساد وتدهور أوضاع الثقافة في كافة مجالاتها. ومجتمع التنمية المستقلة يبدأ بالتنمية البشرية في كافة المجالات التعليمية والصحية والإسكانية والشباب والطفولة وقضايا المرأة فكلها قضايا مهمة معالجتها يؤسس للاعتماد على الذات في مشروع التنمية وهنا لابد أن يكون منطلقنا في المعالجة معبرا عن انتمائنا الاجتماعي للفقراء والمنتجين والكادحين -الأغلبية من شعبنا- والسعي لتنمية الإنتاج الوطني بإعادة مصادر الحركة إلى القطاعات المحلية المنتجة، وتقليص الوزن النسبي لخطر الاعتماد على المصادر الريعية (قناة السويس- البترول- السياحة) مع عدم إغفال تطويرها، والتحكم في النمو السرطاني لتجارة الأموال والمضاربات العقارية بوضع روادع وقواعد مناسبة، والهدف: دعم الاقتصاد العيني مقابل تقليص اقتصاد المضاربة، وتعزيز الطابع الإنتاجي بتكامل حلقاته وتوفير مستلزماته داخليا، وتوجيه الإنتاج لإشباع الحاجات الأساسية أولا بقدرات إنتاجية تحقق الاعتماد على النفس ومراعاة توافق اختيارات الإنتاج مع الذوق الوطني، وتطوير المنتجات وأساليب إنتاجها بامتلاك ناصية المعرفة التكنولوجية المتطورة، والتدقيق في اختيار فروع الصناعة المتطورة الأولى بالرعاية، وتبنى استراتيجية تصنيع سريعة وطفرية وتنفيذ استراتيجية الربط بين الورش والصناعات الصغيرة المنتشرة بآلاف عبر شبكة لتكامل حلقات التصنيع الوطني ومضاعفة نصيب الصناعة في الناتج المحلى الإجمالي إلى 40% خلال عشر سنوات، وهو هدف لا يتحقق بدون مضاعفة معدل الادخار المحلى ومعدل الاستثمار الإجمالي إلى مالا يقل عن ثلث الناتج القومي، والتركيز على الصناعة لا يعنى إهمال الزراعة، فما جرى إهماله عندنا في الزراعة والصناعة هو النهج الإنتاجي المتطور الذي يعطى للتقدم العلمي أبرز الأدوار، وقد أصبحت الزراعة تعتمد على الصناعة المتطورة بدرجة أكبر مما كانت الصناعة تعتمد، تاريخيا، على الزراعة، ولذلك لا ينبغي التضحية بالزراعة من أجل التصنيع ولا يمكن تنمية الإنتاج الزراعي دون مراعاة علاقة الفلاح بالأرض، ونقطة البدء: إصلاح زراعي جديد يعيد النظر في الملكيات الغائبة واحتكار الأرض، وتأسيس صندوق حكومي لشراء الأراضي الزراعية المؤجرة من ملاكها وتمليكها للمستأجرين على أقساط طويلة الأجل، وحظر طرد أي مستأجر من أرضه، وإعادة النظر في قانون الإيجارات الزراعية الجديد، وإلغاء حجوزات بنك الائتمان وديونه على الفلاحين الذين يملكون أو يزرعون أقل من 5 أفدنة ووقف مطارداتهم أمنيا وقضائيا، وتحويل بنك الائتمان وبنوك القرى إلى بنك التعاون الزراعي يملكه ويديره التعاونيون الزراعيون لخدمة الفلاحين والإنتاج الزراعي، ودعم تكامل حلقات التعاون الزراعي في الإنتاج والإقراض والتسويق، وتعديل التركيب المحصول لإشباع الحاجات الأساسية وتنشيط اتجاهات التكثيف المحصولى وبحوث التقاوي لتطوير أصناف عالية الإنتاجية وقليلة الاستهلاك للمياه والمخصبات الصناعية، وتطوير الإرشاد الزراعي بمشاركة كليات الزراعة في الجامعات، وترشيد استخدام المياه، فـ 97.5% من مواردنا المائية يأتي من خارج الحدود، ونصيب الفرد 980متر مكعب سنويا (أي تحت خط الفقر المائي المقدر دوليا بـ100متر مكعب للفرد)، وتنمية الزراعة مع ترشيد استخدام المياه يلزمه زيادة الاستثمارات في الزراعة والري والصرف، ومضاعفة المخصصات الحالية (10% تقريبا)، وإنشاء صندوق خاص للتنمية الزراعية يجرى تمويله من زيادة الضرائب على السلع ومظاهر الاستهلاك الترفيهي والأراضي الزراعية المستقطعة لأغراض غير زراعية (مباني ومنشآت وطرق ومصانع …الخ) وحصيلة بيع أراضى الدولة، والاستفادة من الاستثمارات في تهيئة المناخ لزراعة غير تقليدية توجه للتصدير وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الحيوان والأسماك وسائر الكائنات البحرية، ومضاعفة الرقعة الزراعية المستغلة 7.4 مليون فدان حاليا) بالإسراع في تعبئة شاملة لتنفيذ مشروعات الاستصلاح والتوسع الكبرى في سيناء والجنوب ومنخفض القطارة والواحات الخارجة والداخلة (حيث يمكن زراعة مساحات شاسعة من أرض مصر اعتمادا على مصادر متعددة من بينها مخزون المياه الجوفية).
وتبنى معايير عادلة في توزيع الأرض الجديدة على الفلاحين المهجرين من مخزون الريف (57% من سكان مصر) وعمال المشروعات والشركات العامة والخاصة والطاقات العربية المشاركة وفق خطة شاملة لتوسيع رقعة المعمور المصري، ومع تطوير الصناعة والزراعة يجب تفتيح مسام المجتمع الإنتاجية كلها وإطلاق طاقاتها، فالتعاونيات قطاع فعال في المجتمع، وإنتاجها السنوي حاليا يتجاوز عشرة مليارات جنيه، وهناك عشرة ملايين مواطن منظمين في تعاونيات الزراعة والحرف والاستهلاك والإسكان والصيادين، وعدد الجمعيات التعاونية أكثر من 15ألف، والقطاع التعاوني عميق الجذور في مصر وله مؤسساته الراسخة، والتعاون ينمى قيم الديمقراطية الاقتصادية والمسئولية المشتركة والوظيفة الاجتماعية للملكية، ويجب السعي لتوسيع قاعدة التعاونيات وتأكيد ديمقراطيتها وتعظيم إنتاجيتها وتحريرها من وصاية الدولة أو مظاهر الانحراف بها، والحرفيون -أيضا- قطاع فعال في حياة مصر عددهم أكثر من أربعة ملايين، ويقومون بتصنيع وصيانة وتجميع سلع عديدة وهم حلقة هامة في تكامل قطاعات الاقتصاد، ويجب تشجيع الحرفيين بإعفاء صغارهم من الضرائب المتراكمة عليهم، وقيام الحكومة بأداء التأمينات الاجتماعية عن عمالهم، وتسهيل إجراءات الترخيص لورش الحرفيين، وهى أفضل مدارس التلمذة الصناعية، وإنشاء بنك خاص لتمويل الصناعات الحرفية وتجميعهم في اتحادات أو تعاونيات تساعد على فتح سبل التصدير لمنتجاتهم ومشغولاتهم اليدوية بالذات، أيضا يجب تشجيع الحرف والصناعات البيئية، ودعم مشروعات الأفراد الصغيرة والمساعدة في الترويج والتسويق وتحسين الاستفادة بالميزات النسبية لموقع مصر وإمكاناتها الثقافية والبشرية باستثمار موقع مصر المتوسط لإقامة مناطق الصناعة والتصدير ونشر مراكز وورش صيانة وإصلاح السفن على الموانئ المتعددة، وتعظيم عائد السياحة في بلد هو متحف الدنيا كلها، فمصر تملك ثلثي أثار العالم ومشاهد حية مؤثرة من الحقب الفرعونية والتاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي السني والشيعي، وهو ما يعنى أن أغلب البشر لهم مزاراتهم المحببة في مصر، ونصيبنا الممكن من السياحة يفوق نصيبنا الحالي منها بعشرات المرات، ويتطلب نشاطا هائلا في الترويج والتسويق، وإنشاء وزارة خاصة للآثار، ودعم سياحة المعارض والمؤتمرات ودعم السياحة الداخلية، وتوفير منشئات سياحية متنوعة تخاطب أذواق السائحين القادمين من بيئات ثقافية مختلفة، أيضا: يجب تشجيع السياحة الطبية خاصة من الأقطار العربية، ولدينا منشآت وخدمات طبية متطورة قادرة على الجذب لو جرى الترويج لها.
كما يجب اعتماد التنمية المخططة التي تستهدف مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات على الأكثر، وتأكيد دور الدولة الوطنية في قيادة التنمية بكافة قطاعاتها عبر السيطرة على وسائل الإنتاج المتصلة بالأمن والخدمات والمرافق العامة والاحتياجات الأساسية للمواطن، ووقف الاقتراض الخارجي المشروط وغير المرتبط بمشروعات استثمارية مخططة أو بالنقل الكامل للتكنولوجيا، وتفضيل الاقتراض عند الحاجة من جهات وأقطار عربية، والاستفادة القصوى من الثغرات وفترات السماح في اتفاقات الجات، والعمل على تحقيق تكافؤ أفضل من خلال الاندماج في كتلة اقتصادية عربية، فالكتل الاقتصادية الأوسع لها مزاياها واستثناءاتها المنصوص عليها في اتفاقات الجات، والسعي من خلال مجموعة الثمانية (الدول الإسلامية) ومجموعة الـ15 (لدول الجنوب) لضمان وحماية أكبر للأسواق والصناعات والمنتجات، وإلغاء العجز المتفاقم في ميزاننا التجاري بتنمية قطاعات التصدير ودراسة احتياجات الأسواق الأقل نموا، والاتجاه شرقا وجنوبا في تجارتنا الخارجية بنسبة الثلثين ووقف استيراد السلع الكمالية والترفيهية، والإحلال محل الواردات بإشباع الاحتياجات الأساسية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب، ودعم حصانة السوق بتنمية الاعتزاز بالمنتجات الوطنية مع تطويرها وتجويدها تحت شعار "صنع في مصر وبعقول مصرية" ووقف برنامج خصخصة القطاع العام والعمل على إصلاحه إصلاحا شاملا وإدارته على أسس الكفاءة الاقتصادية والتطوير الإنتاجي، وتعزيز رقابة العاملين ومشاركتهم في الإدارة وتنمية استثمارات القطاع العام، ودعم عمليات التجديد والإحلال والتشغيل الكامل لخطوط الإنتاج، وبيع الوحدات الخاسرة للعاملين أو للوحدات الأخرى الرابحة، ومساواة القطاع العام في الحوافز والتسهيلات مع القطاع الخاص، وتعزيز دور التعاونيات والحرفيين في الإنتاج والتسويق والتصدير، ودعم دور القطاع الخاص الوطني المنتج في كافة المجالات وأهمها مجالات التصنيع والمعلوماتية والمساواة التامة في المعاملة والإغراءات والتسهيلات بين رءوس الأموال العربية ومثيلتها المحلية، وتقليص نشاط التوكيلات الأجنبية وحصار الأنشطة الطفيلية والاستهلاكية، ووقف نزيف الإعفاءات الضريبية الممنوحة بحجة تنشيط الاستثمارات، وتوجيه الإعفاءات لقطاعات بعينها مطلوب تنميتها في إطار الخطة العامة والتشديد في تحصيل حقوق الدولة بأحكام قضائية، وفرض ضريبة اجتماعية تصاعدية، وإلغاء تشريعات السماح للأجانب بإنشاء وإدارة المطارات والموانئ والطرق وتملك الأراضي والعمل على تطوير الريف المصري (الإنسان والمعمار والأرض) بما يحافظ على البيئة المميزة له في كافة مناحي الحياة المعاشة.
سابعا: نسعى لبناء مجتمع الضمان الاجتماعي الشامل
وتلبية الحقوق والحاجات الأساسية للإنسان، والتأكيد على حقوق التعليم والعمل والعلاج والسكن والتأمين والمعاش والبيئة النظيفة لكل مواطن بصفتها حقوقا طبيعية ودستورية ملزمة، وهذه الحقوق –مع عدالة توزيع الثروة- عناصر جوهرية للتنمية البشرية التي هي عنوان رقى وتقدم الأمم، ومن حق كل مواطن أن يتعلم مجانا، وأن يواصل طريق العلم بقدر ما يتحمل استعداده ومواهبه، فالعلم طريق تعزيز الحياة الإنسانية وتكريمها، والعلم هو الطاقة القادرة على تجديد شباب العمل الوطني، وتكافؤ الفرص في التعليم والعلم هو الأساس، وإيقاف سرطان التعليم الخاص في جميع المراحل –وبالأخص في المرحلة الجامعية- الذي يحول العلم إلى سلعة ويهدر تكافؤ الفرص.
العمل حق وشرف وواجب ، ومن حق كل مواطن أن يجد عملا يتناسب مع كفاءته واستعداده ومع العلم الذي تحصل عليه، وأن يكون هناك حد أدنى مناسب للأجور مرتبط بالإنتاج والأسعار ويتكفل به القانون، وحد أعلى للدخول تتكفل به الضرائب، ومن حق كل مواطن تتأخر عنه فرصة العمل أن تصرف له "إعانة بطالة" شهرية تفي بالحد الأدنى من ضرورات الحياة، وفرص العمل يجب توفيرها بالتوسع الإنتاجي في مشروعات العمالة الكثيفة، وتأهيل فوائض العمالة بإعادة التدريب لوظائف جديدة مطلوبة، والعمل بنظام تعدد الورديات (اثنتان وثلاثة) في كافة قطاعات الإنتاج والخدمات لاستيعاب قوة العمل بالكامل وزيادة العوائد طفريا في الوقت نفسه، ومن حق كل مواطن أن يحصل على معاش مناسب في سن التقاعد، والتأمينات ضد الشيخوخة وضد ا لمرض لابد من توسيع نطاقها بحيث تصبح مظلة واقية للذين أدوا أدوارهم في العمل الوطني، وجاء الوقت الذي يجب أن يضمنوا فيه حقهم في الراحة المكفولة بالضمان، ومن حق كل مواطن أن يحصل على حقه في الرعاية الصحية بحيث لا تصبح هذه الرعاية علاجا ودواء سلعة تباع أو تشترى، وإنما تصبح حقا مكفولا غير مشروط بثمن مادي، وحق كل مواطن في الرعاية يكفله نظام كفء للتأمين الصحي الشامل، ويجب أن يزيد نصيب الصحة مع التعليم إلى ربع إجمالي الإنفاق العام على الأقل، ومن حق كل مواطن أن يجد السكن الملائم وفى حدود نسبة معقولة من دخله، ويمكن تبنى جملة إجراءات من بينها، وقف ظاهرة الإسكان الترفي والمضاربات العقارية، وتقديم كافة التسهيلات في توفير الأراضي ومواد البناء بأسعار رخيصة، وعودة الدولة - بالمشاركة مع القطاعين الخاص والتعاوني- إلى تحمل مسئولياتها تجاه الإسكان الشعبي وتدخل الدولة لمواجهة كافة أشكال الخروج على قوانين الإسكان بحلول ممكنة عمليا مقبولة سياسيا واجتماعيا وإداريا، وصياغة تشريعات إيجارية عادلة، وحظر طرد مستأجر من سكنه، ويجب ضمان حق كل مواطن في بيئة نظيفة، بحماية النيل من التلوث، وحظر أي نشاط ضار بالبيئة والإنسان، فـ40% من سكان المدن يستنشقون هواء ملوثا، وتضمين كل مشروع صناعي الاعتمادات اللازمة للتخلص من النفايات، والحد من الإفراط في استخدام الأسمدة الكيماوية، واستغلال نفايات الزراعة ونفايات الإنسان في توفير السماد العضوي وتوليد الطاقة الحيوية، وحظر استخدام الهرمونات في تربية الماشية أو زراعة الفواكه، وتنقية مياه الشرب من الملوثات الكيماوية، والاهتمام بالنظافة العامة، وتعميم استخدام الوقود الخالي من الرصاص في وسائل النقل.
هذه بعض أهدافنا ومطامحنا، نتوجه بها إلى الشعب وحده.
ونثق أن الشعب هو المعلم، وصانع التغيير، وغايته.

0 Comments:

Post a Comment

Subscribe to Post Comments [Atom]

<< Home